علي السومري /
ونحن نواجه طغيان الأمية من جديد في مجتمعنا العراقي، ونكوص الثقافة وانحسارها في مجال القراءة، ولاسيما لدى شريحة الأطفال، الذين سيقع على عاتقهم عبء بناء أمتنا العراقية في المستقبل القريب، علينا أن نفكر بحلول لمواجهة هذا الغزو، غزو الجهل الذي فرضه واقع أمني متردٍ واقتصادي متعب، واجتماعي هش!
اليوم علينا أن نطرح أسئلة عديدة ونبحث عن أجوبتها لدى المتخصصين، منها: كيف يمكننا ترسيخ الثقافة والفن لدى الطالب العراقي اليوم، ومحو ترسبات عسكرة الطفولة التي انتهجها النظام البائد في ثمانينيات القرن الماضي، وتشجيع الطلبة على فعل القراءة؟ وأن نبحث أسباب عدم اهتمام المؤسسة التربوية بدرسي الفنية والموسيقى، وأسئلة أخرى توجهنا بها إلى عدد من المثقفين المتخصصين في هذا الاستطلاع، محاولة منا لتسليط الضوء على هذه الإشكالية الكبيرة.
الكاتب والشاعر (جليل خزعل) في رده على سؤالنا عن كيفية ترسيخ الثقافة والفن عند الطالب، ولاسيما أننا نواجه أزمة كورونا واقتصار الدوام في المدارس على يوم واحد فقط، قال: “أعتقد أن هذا هو الوقت الأنسب لترسيخ الثقافة والفنون على اختلاف أصنافها لدى أطفالنا، كونهم يتمتعون بمتسع من الوقت بعيداً عن ضغط الدوام اليومي الطويل، والحضور الإجباري المرهق، مشيراً إلى أنه بادر شخصياً بكتابة عدد من النصوص الشعرية والقصصية عن الجائحة، وقد لاقت تجاوباً لافتاً في العراق وخارجه، ولُحنت من قبل أكثر من جهة وصارت تبث على قنوات اليوتيوب وبرامج التواصل الاجتماعي المختلفة.”
مشاكل مُركّبة
أما (الدكتور كاظم عبد الزهرة)، مدير المركز العراقي لثقافة الطفل، فأشار في حديثه إلى أن الحكومات العراقية عجزت عن تقديم حلول للمشاكل المركبة التي يعاني منها المجتمع العراقي، ولاسيما شريحة الأطفال الذين يشكلون أكثر من نصف سكان العراق، فالمشكلة في رأيه تتعلق بترسيخ الثقافة والجمال والفن في المجتمع – بوصفها دلائل على رخاء المجتمع واستقراره – إذ أنها أصبحت اليوم مشكلة بالغة التعقيد بسبب سياسة التجاهل التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة على إدارة الدولة العراقية منذ عام 2003 وحتى اليوم، ما أدى إلى أن تفقد الحكومة قدرتها على إدارة التعليم في وقت الأزمات، فقد أخفقت تماماً أمام جائحة كورونا بعد إخفاقها أيضاً في إدارة التعليم في العام الذي قبله مع أزمة التظاهرات.
في حين أقترح الشاعر والقاص (قاسم سعودي)، وهو صاحب منشورات الصباح لكتاب الطفل، إقرار درس جديد في المنهج الدراسي يسمى (الدرس الإبداعي) يُسلط الضوء على الكتابة الإبداعية، ويُعرّف بأهم الأدباء والشخصيات العراقية المؤثرة في الفنون الأدبية والإنسانية والجمالية كافة، من شعر وسرد وسينما وتشكيل ومسرح وغيرها. ويرى سعودي أنه ربما يكون الوقت مناسباً الآن لمواجهة هذه الإشكالية، على الرغم من الظرف الحالي الذي وصفه بأنه دراما عظيمة يعيشها التلميذ العراقي، بل والمجتمع العراقي!
الثقافة أسُّ التعليم
فيما تحدث المُعلم التربوي (رعد غالي هاشم) عن هذه الموضوعة قائلاً: “لا يمكن أن نرسخ الثقافة والفن لدى التلاميذ مع اقتصار الدوام على يوم واحد في ظل الجائحة، لكن من الممكن للمعلم أن يوظف الثقافة والفن، بحسب المادة التي يدرسها، نحن نعلم أن الثقافة والفن هما أساسا التعليم، فالمعلم الجيد لا يمكنه أن يوصل المادة العلمية ما لم يمتلك بعض الفنون، مثل الخطابة، أو التمثيل، أو الخط، أو الرسم، أو الإنشاد، أو سرد القصص، وحتى الرواية، وغيرها.” مشيراً إلى ضرورة أن تولي وزارة التربية مادتي التربية الفنية والموسيقى الاهتمام الكافي لما لهما من دور في تحفيز وعي الطالب وهو في بداية مشواره التعليمي، وتعيين خريجي كلية الفنون الجميلة ومعاهد الفنون في المدارس وإقامة المهرجانات الثقافية وإشراك الطلبة فيها، والاهتمام بشريحة المعلمين وإرسالهم في بعثات إلى خارج العراق لتطوير إمكانياتهم.
رد الاعتبار
نعرف جيداً أن درس التربية الفنية، الذي تحدث عنه المُعلم التربوي رعد غالي، يُعد في الدول المتقدمة من الدروس الأساسية للطفل. عن أهميته تحدث الكاتب والشاعر جليل خزعل قائلاً: إن “رد الاعتبار لدرس التربية الفنية يتطلب وعياً مجتمعياً، وتغييراً جذرياً في الأهداف التربوية العامة، والفلسفة التربوية التي تنتهجها الدولة، فهو بحاجة ماسة لإعادة النظر في خطط تدريسه وتقويمه، وإعداد المعلمين والمدرسين المؤهلين لذلك.” مضيفاً: “بدورنا بذلنا كل ما نستطيع فعله من أجل أن تأخذ الفنون حقها في العملية التربوية، لدرجة أنني حوّلت، بجهد شخصي، الدروس العلمية البحتة إلى قصائد وقصص من أجل تدريسها بطريقة يسهل تلحينها وحفظها على الطلبة. كما أنتجتُ مجموعة من الحقائب التعليمية لمرحلة رياض الأطفال والصفوف الأولى من المرحلة الابتدائية لتشجيع الطلبة على التعلم بالشعر التعليمي والأناشيد المصورة المرفقة برسوم كارتونية جميلة، وقد اعتُمدت هذه الحقائب – عددها خمس حقائب- في إمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة. كما أفاد منها كثير من المدارس والأكاديميات الخاصة في العالم العربي.”
حبُ المطالعة
أما الدكتور كاظم عبد الزهرة فيرى “أن الفن ليس درساً مستقلاً يسمى التربية الفنية من ضمن الدروس المقررة فحسب، بل إن له مهامّ متفرعة تتخلل كل الدروس والمناهج والوسائل التعليمية.” مشيراً إلى “أن الكتاب المدرسي يقدم للتلميذ والطالب مرفقاً بالرسوم التي تحتل أهميتها الصدارة بما تقدمه من شرح وتفسير للمادة العلمية المكتوبة أولاً، وما تسهم فيه من صقل لذائقة الطفل وتهذيب لبصره ثانياً، وفي توثيق علاقة الطفل بالمعرفة والكتاب وحمله على حب المطالعة ثالثا، كذلك الوسائل التعليمة الأخرى التي تقدم في حلّة جمالية على شكل رسم أو نحت أو حتى فيلم.” موضحاً “أن لديهم في مركزهم المتخصص بثقافة الطفل رؤية واضحة لتطوير شامل لكتب المناهج، بل لمجمل العملية التربوية في العراق، وأنهم يحاولون ايجاد السبل للتعاون مع الحكومة العراقية لتطبيق تلك الحلول الشاملة.”
في حين وصف القاص والشاعر قاسم سعودي هذه المبادرات -الاهتمام بالتربية الفنية والموسيقى- بأنها مهمة في هذا الجانب، ولاسيما المبادرات التي تأتي بالتعاون مع الجميع ومحاولة تنظيم مسابقات خاصة بالرسم والموسيقى أولاً، ثم تطوير الرؤية التعليمية من جانب وزارة التربية ومحاولة ترسيخ مفهوم العلم والثقافة أولاً، بعيداً عن كل المفاهيم الأخرى التقليدية التي لا تواكب ما نحتاج إليه في هذه الأوقات الصعبة من تاريخ البلاد.
نوافذٌ جديدة
أما بشأن حديثنا عن شحة إصدار المجلات المتخصصة بثقافة الطفل، أو أزمة تسويقها، وكيفية تدارك هذين الأمرين، فيذكر الكاتب والشاعر جليل خزعل: “مجلات الأطفال مرغوب فيها ومطلوبة جداً في كل وقت ومكان، لكن هناك سوء إدارة، وعدم مواكبة الوسائل الحديثة في التسويق ما حرم أطفالنا منها.” ويقترح خزعل “فتح نوافذ بيع جديدة ومبادرات تجعل المطبوع في متناول يد الطفل مباشرة، أو البيع المباشر في الأماكن والمحال التي يرتادها الأطفال عادة ومنها الحانوت المدرسي، والمولات ومدن الألعاب، وأسواق بيع الملابس الخاصة بهم، فضلاً عن اعتماد التوزيع الإلكتروني.”
في حين قال الدكتور كاظم عبد الزهرة: “إن إنتاج الثقافة الموجهة للطفل في العراق ليس شحيحاً بل إنه منعدم، وكل ما يصدر من مؤسسات الحكومة لا يسد نسبة تذكر مقابل ملايين الأطفال وحاجاتهم الثقافية، بل لا يمكن مقارنة إصدارات العراق مع إصدارات أي بلد عربي آخر، ناهيك عن عدم اهتمام العراق بإقامة مهرجانات سنوية للكتب والمجلات والرسوم الموجهة للأطفال أو سينما ومسرح الطفل.”
معارض دولية
الشاعر والقاص قاسم سعودي كان له رأي مختلف بعض الشيء بشأن الإصدارات المخصصة للطفل، إذ قال: “ليس مهماً إصدار المجلات ولا كتب الأطفال، المهم إنتاج بيئة جديدة لترسيخ مفهوم أدب الطفل، وهذه البيئة تحتاج إلى كثير من الجهود الحقيقية الواعية، منها مثلاً ترسيخ مفهوم المكتبة في المدارس، وإقرار قانون يلزم المدارس بإنشاء المكتبات فيها، وأن لا يقتصر ذلك على المدارس فحسب، بل أن يشمل المشافي والجامعات وغيرها، إضافة لتنظيم معارض خاصة لكتاب الطفل تعتمد دوليا، وبالتالي نستطيع إنتاج وتسويق كثير من المجلات والكتب الخاصة بهذه الشريحة المهمة في المجتمع.”
أما المُعلم التربوي رعد غالي هاشم فأشار في حديثه إلى أن إصدار المجلات المتخصصة في ثقافة الطفل يعتمد جذرياً على دعم الدولة عامة، ووزارتي الثقافة والتربية خاصة، مضيفاً: “يمكن مثلاً إصدار مجلة يحررها التلاميذ بأنفسهم، وأن يعمم هذا الأمر على المديريات كافة، بمشاركة أكبر عدد ممكن من التلاميذ، تضطلع بنشر نشاطاتهم وصور المساهمين فيها، وتشتمل على مختلف الفنون.”
إهمالٌ متعمد
لا يمكننا الحديث عن ثقافة الطفل دون الخوض في واحدة من القضايا التي خلفتها الديكتاتورية ونظامها الفاشي، ألا وهي عسكرة الطفل وثقافته، وهو أمر كان واضحاً لمن عاش تلك السنوات المرعبة، سنوات تحولت فيها أغلفة مجلات الطفل إلى صور عن الحرب والموت وآلات القتل، وضمّت صفحاتها أناشيدَ تتغنى بالحرب والدم. وقد كان لضيوف استطلاعنا رأي عن هذه القضية المريرة، إذ قال الكاتب والشاعر جليل خزعل: “إن عدم الاهتمام بالطفل ناجم عن الفهم الخاطئ لدور الطفولة والنظرة القاصرة لما يمثله الأطفال من ثروة مستقبلية لبلدانهم.” مشيراً إلى “أهمية ترجمة فقرات اتفاقية حقوق الطفل التي تبنتها الأمم المتحدة، وأهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالطفولة وتحويلها إلى واقع ملموس، وعدم الاكتفاء بالشعارات الرنانة، والحديث عن حقوق الطفل في المحافل الدولية والندوات التي تعقد هنا وهناك، والمتاجرة بقدرات الأطفال من قبل الأشخاص والجهات المتعددة من أجل مكاسب وغايات شخصية.”
أما الدكتور كاظم عبد الزهرة فتحدث عن هذا الأمر قائلاً: “يكمن الخلل في ذهنية المسؤول العراقي الذي أهمل توفير حق الطفل في التربية والتعليم، وتوفير كل ما من شأنه تنمية الطفل وتأهيله للتزود بالمعارف والعلوم، هذا الإهمال إما أن يكون ناجماً عن الجهل بأهمية وخطورة ثقافة الطفل وكيفية توجيهها، أو أنه إهمال متعمد مدروس للوصول بالوضع الاجتماعي إلى ما نحن عليه اليوم.” موضحاً “أن ثقافة أغلب الناس من أطفال وشباب دون سن الـ 25 هي ثقافة هزيلة، غارقة في تبني مواقف الآخرين والانقياد لهم، مواقف ترسخت فيها القيم الطائفية والقومية التي حلت بديلاً عن العلم والمعرفة والمنطق والجمال بمعناها الفلسفي العميق.”
في حين يذكر الشاعر والقاص قاسم سعودي: “هذا وباء ثقافي يصعب التخلص منه، نحتاج حتماً إلى سنين طوال للتقليل من خطورة ما حصل لذاكرة الطفل العراقي والعقل الجمعي التربوي والثقافي، أظن أن العسكرة تواصلت بأنساق أخرى مع الأدلجة المرعبة.” مضيفاً: “لكني أراهن على شجاعة الطفل العراقي، وطاقة الأمل والبراءة بالرغم مما حدث ويحدث حتى الآن.”
ثقافة التسامح
“يجب إبعاد التلميذ عن ثقافة العسكرة بأي ثمن، ومحو كل ما ترسب من سنوات الطاغية وثقافته الدموية.” يقول المُعلم التربوي رعد غالي هاشم ويضيف: “كما يجب إعادة الاعتبار للحرم المدرسي، وعدّه حرماً مقدساً مستقلاً، وإبعاده عن الصراعات السياسية والحزبية والطائفية، وإرساء ثقافة التسامح والمحبة والألفة بين الجميع.” مشيراً إلى “أن ذلك لن يتم إلا بتشريع قوانين خاصة تمنع ظواهر التشدد والعنصرية، وتعاقب المروجين لها في الحرم المدرسي.”
أما عن سؤالنا عن كيفية توجبه الأطفال والطلبة لممارسة فعل الثقافة، قراءة وكتابة؟ قال الكاتب والشاعر جليل خزعل: “الثقافة سلوك عام يكتسبه الطفل من محيطه، متمثلاً بالأسرة والأقران وزملاء الدراسة، يجب رسم الخطط بدقة من أجل ترسيخ هذا السلوك لدى الطفل من خلال جودة الخدمات الثقافية المقدمة له ومحتواها.”
في حين قال الدكتور كاظم عبد الزهرة “إن استعادة فعل القراءة للطفل والطالب العراقي لن تتحقق ما لم تتبنَّ الدولة العراقية ستراتيجية شاملة يضع أُسسها خبراء في التربية والتعليم وعلم النفس وتتبناها فلسفة لها، يدرج فيها كل ما من شأنه توفير الحقوق الثقافية والتربوية والاقتصادية للطفل، التي أقر العراق بها، ووقع متعهداً بتنفيذها في اتفاقية حقوق الطفل العالمية،” تلك الاتفاقية التي بيـّن عبد الزهرة أن الحكومات العراقية لم تتمكن من تنفيذ بند واحد من بنودها.
مبادرات وسفرات علمية
أما الشاعر والقاص قاسم سعودي فاقترح لمواجهة هذه الأزمة إقامة ورش الكتابة والقراءة، عاداً إياها مهمة جداً في هذا الأفق مبيـّناً أنه، على الصعيد الشخصي، أطلق مبادرة مارثون الكتابة، ويحاول اليوم أن يطلق أيضاً مبادرة مارثون القراءة، ولاسيما أن هاتين المبادرتين تشملان جميع التلاميذ وصولاً إلى فضاء الجامعة، مضيفاً: “علينا أن نعمل فقط ونحاول تقديم شيء حقيقي يواكب ما وصل إليه العالم المتحضر أو يلامسه.”
فيما يقول المُعلم التربوي رعد غالي هاشم، عن هذه الموضوعة “إن توجيه التلاميذ الى ممارسة فعل الثقافة قراءة وكتابة، يتطلب جعل هذه الممارسة سلوكاً، بأن ترفد وزارة التربية ومديرياتها المدارس بالمجلات الخاصة بالأطفال، وتوزعها بين التلاميذ، وأن تدخل المواد العلمية والثقافية فيها، على أن تناسب موضوعاتها طلاب المراحل المختلفة، فضلاً عن إقامة السفرات العلمية، وزيارة معارض الكتب، والمتاحف، وإجراء المسابقات الأدبية بين الطلبة، وترسيخ ثقافة مناقشة الكتب الأدبية والعلمية بين التربويين والطلبة، واستضافة عدد من الكتاب والمثقفين في المدارس من أجل سرد تجاربهم الإبداعية، وهو ما سيحفز الطلبة للاحتذاء بهذه التجارب المهمة التي شكلت ثقافة العراق منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا.”