دعد ديب /
إذا كانت المتاهة في علم النفس نوعاً من التوصيف، لحالة من الضياع لارتكاسات الكائن البشري بتلاوينها المختلفة من جهة، وأحد الأساليب المتبعة لقياس الذكاء والقدرات العقلية من جهة أخرى، لناحية رصدها لإمكانية الدخول والخروج من أحابيلها،والنفاذ منها بأقل وقت ممكن، فإن متاهات برهان شاوي السردية أشبه بشراك ينصبها لقارئه الذي يبدو واثقاً من قدرته على حل ألغازها وتفكيك مغازيها والوقوف على فحواها، فإذا به يتورط في متابعة تحبس الأنفاس، ضمن خضم عالم يمور برعبه و كوابيسه، متاهات تغرق بالعنف والرغبة والموت.
التشويق الذي يمسك هذه السلسلة الروائية للمتاهات المتتابعة بخيط خفي يمسك بتلابيب المتلقي، بترقب فيه من الخوف والتوق والانبهار الشيء الكثير، تبدأ من تلك العناوين الافتتاحية ” متاهة آدم – متاهة حواء- متاهة قابيل-متاهة إبليس -متاهة الأشباح وسواهم” كعتبة نصية تعطي دلالات مبهمة لأسماء رمزية، ذات عمق في الوجدان الجمعي ولها فعل السحر في جذب الانتباه لتفسير مايخفيه هذا العنوان الواضح الغائم.
ربما تكون أزمة الفرد الوجودية قد برزت على السطح بحدة ووضوح في جلّ أعمال الكاتب، مختزلاً الأبعاد المترامية والكثيفة للإنسان الأعزل والوحيد، ككائن بشري بغض النظر عن أية انتماءات عرقية أو مناطقية أو دينية، يبحث في قاع الذات الإنسانية؛ في الغامض الأسود منها؛ التي تشوهت أو شُوهت بفعل عهود من القهر والتدجين، الحقيقة العارية ما يبغيه، متوغلاً في العمق النفسي لأبطاله، حيث يضيء علاقة الفرد بجسده كونها تعكس حقيقته وحقيقة أزماته ورغباته وفهمه للحياة والكون، وتجسيد ذلك الرعب والقلق والوحدة التي يعيشها، إضافة إلى الضجيج والصخب اللذين يعتملان في أعماقه لمواجهة الشكوك والأسئلة التي تعصف بوجدانه على غرار أسئلة وجودية مازالت تؤرقه: “أين يذهب وعينا عند الموت؟” أو “لماذا ياحواء كنت تنظرين لحياتك وكأنها ليست حياتك ولا تخصك أنت..؟؟”
أسئلة الوجود والحياة والمعنى الكامن فيها السؤال الذي يواجه الإنسان-مطلق إنسان- في كافة مراحله ومحطاته وإن كان يحمل ذاكرة المكان الذي أتى منه.
أسلوب المتاهات كتقنية سردية تراوغ القارئ وذكاءه في الإمساك بالخط المحوري في العمل، ظهرت في نموذج الرواية ضمن رواية والتي تحوي رواية بدورها، لدرجة تحار أيها الأصل وأيها الفرع المحكي عنه، متاهة من يروي عن من، وكيف تتقاطع حياة البطل الواقعي مع البطل المتخيل المروي عنه في سيرورة تشعبية للأحداث، وكأنها شجرة تتفرع إلى عشرات التفاصيل لتنشب جذورها في معمار كوني يرصد الإنسان في تجلياته المختلفة وصورة الكوارث التي تلاحق كينونته.
كما أن الفانتازيا الغرائبية، وعلى وجه الخصوص في متاهة إبليس، الكائنات التي تظهر وتختفي، والتي تظهر في أكثر من مكان بذات الوقت، الشخوص المتناسلة من بعضها، والمتداخلة في تفاصيلها بين الواقع والخيال، بين المرئي واللامرئي، جاءت لتعطي مزيداً من الإغراق في العالم العبثي، الذي يدخل المتلقي به كطرف غير محايد، لأن لتسمية أبطاله آدم وحواء رمزية واضحة لسائر الشخوص بمرجعيتها وخروجها من منبع واحد برمزية واسعة الدلالة للإنسان المتحدر منها.
وإن كان الكاتب قد أفرد الكثير من الحوارات الفكرية بين شخوص رواياته لجهة التشكيك بكل المسلمات التي انتقلت عبر الزمن، بطريقة تجعل للأسئلة الحيوية صفة بالغة الحضور والاستمرارية، فإنه وظف ذاك الموروث الثقافي الديني بشكل لافت، تجلى في أكثر من لوحة مثل الظهور والاختفاء المتكرر للطفل هابيل في متاهة العميان “الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى”، مشابهة بظهور واختفاء المهدي ورمزية الطفل في هذا العرض لا تخفى على لبيب، بأنها الإشراقة البعيدة للقادم الجميل وسط كل هذا الخراب.
يقول برهان شاوي إنه يشابه تجربته السردية لمتاهاته المكونة من تسع روايات متتابعة، بطبقات الجحيم التسع في “انفيرنو” دانتي أليجييري بتناص مع المعنى الخفي للجحيم الأرضي الذي يعده البشر لأقرانهم، ولربما أراد بقوله هذا أن أبطاله يتقلبون في أروقة الجحيم، جحيم الحياة، والوجود المتهالك المدمر، الذي علقوا به كقدر ظالم وجائر يرزحون تحت وطأته.
كما لحظ شاوي موضوع ارتباط العنف بالجنس والسلطة، وعلاقة الذكورة بالقمع والإذلال والكبت الجنسي، حيث يراد به تدمير الخصم نفسياً وجسدياً كوسيلة امتهان، في عبث قاهر للطبيعة والخصب والتجدد الذي خلق من أجلها، إضافة إلى العقد النفسية وتابو المحرمات المتأصلة في حيوات الأوادم والحواءات القادمين من الشرق ومن بلاد مابين النهرين، كما أن رصده لحالات شاذة ولنماذج خارجة عن العرف والتقاليد تندرج تحت يافطة الكثير من المسكوت عنه في السياسة والجنس والدين، حيث يختئ فيها الاستلاب والاغتراب الإنساني، مع الجور والقهر والموت الذي جبل مع حياتهم، ليستعرض من خلال أزماتهم المركبة تاريخ العراق منذ عهد الدكتاتور مروراً بالاحتلال الأميركي والواقع الكارثي الذي خلفه، لتتضاعف موجات الهروب والرحيل عن الوطن، الوطن الذي أمسى ثقباً أسودَ يجذب موبقات الوجود بأكملها.
لاغرابة أن أغلب الروائيين بدأوا شعراء ليرفدوا عالم السرد بتلك النفحة النورانية من الموسيقا والإيقاع، وبرهان شاوي ككثير من معاصريه أتى من الشعر إلى الرواية، لاعتقادٍ منه أن معانيه ضاق بها الشعر ولم يعد يتسع لإسهاباته في تدفق الأفكار، حيث الرواية انفجار العبارة والتفاصيل ودقائق الحيثيات، التي تطول الزوايا المعتمة بالواقع والنفوس، وتحتمل الإطالة والإغراق بالجزئيات، والغوص عميقاً في التاريخ والجغرافيا والنفس بذات الوقت، وقد كان لثقافته الأكاديمية في الفيزياء والسينما والمسرح انعكاس بارز على منجزه الروائي، حيث وسعت الفيزياء الكونية من فهمه للوجود وعوالمه وإقامة عالم محسوس للروح فى السرد، الذي اكتسى بألوان من الترقب والتوقع المكتظ بالتوتر الدرامي ضمن حبكات متصاعدة جمع فيها مقدرة كبيرة في استعارة فانتازيا العوالم المتوازية والمتداخلة، التي تجمع بين الواقع والخيال؛ بين الحقيقة والغيب؛ بين الحلم واليقظة؛ واستطاع صبغها بطابعها المحلي الملتصق بالبيئة والظروف المحيطة، وعكس حقيقة الرعب المهيمن في أعماق النفس البشرية التي لاقت وعانت صنوف الإذلال والإجرام ومازال الكابوس يطبق على أنفاسها.
وحده الموت رفيق الكائنات الحزينة يعيدهم إلى واجهة المشهد المقلوب بصفته الحقيقة الأكثر التصاقاً بوجودهم القلق، وتبقى الحياة هي متاهة العالقين بها.