باسم عبد الحميد حمودي – تصوير: المرحوم عادل قاسم /
للمجالس في بغداد على مرّ التاريخ الحديث نكهتها الخاصة المتفردة اجتماعياً, وثقافياً وسياسياً, وإن كان حضور هذه المجالس يتركون السياسة وهمومها عند باب المجلس تخلصاً من إحراجاتها .
ضيوف من كل صنف
وشخوص هذه المجالس من كل صنف ولون, بعضهم سياسي مثل السيد عبد الرحمن النقيب والسيد محمد الصدر وجعفر العسكري وياسين الهاشمي والشيخ محمد رضا الشبيبي، وبعضهم صحفي وشاعر مثل معروف الرصافي والملا عبود الكرخي والزهاوي وعبد الرحمن البناء، وبعضهم قضاة ومحامون مثل قاسم العلوي ومصطفى علي وأمين خالص, وبعضهم شيوخ قبائل مثل عثمان الصكب, وسواهم كثيرون .
أخبار هذه المجالس وطرائفها جمعها ورواها المغفور له الأستاذ حسين حاتم عبود الكرخي في كتابه(مجالس الأدب في بغداد) الذي صدر الجزء الأول منه عام 1987, وكذلك الأستاذ إبراهيم عبد الغني الدروبي في كتابه (البغداديون أخبارهم ومجالسهم) الصادر عام 2001 الذي وثق لوجود 231 مجلساً في بغداد من مجالس العلم والأدب. وقد فضّلنا نقل بعض وقائع هذه المجالس في جانبها المرح بعد أن غدت الحياة أكثر تعقيداً وضعفت ملامح المرح بين الأصفياء, غير غافلين عن وجود مراجع أخرى عن مجالس الأدب في بغداد ومنها كتاب الشيخ يونس ابراهيم السامرائي (مجالس بغداد) 1985 الذي يعد تغطية مستكملة للمجالس التي رافقت المجالس السالفة والمجالس التي ظهرت بعدها, إضافة الى ما كانت تضمّه المقطوعات اليومية التي كان ينشرها الأستاذ عادل عوني في جريدته (الحوادث) التي أغلقتها حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم في تموز 58، ومجلة (الوادي) للأستاذ خالد الدرة التي خصصت صفحات لطرائف الأدباء والساسة, إضافة الى ماكانت تنشره مجلة (قرندل) للأستاذ صادق الأزدي, وما كان ينشره الأستاذ عبد القادر البراك في جريدته (البلد)، رحمهم الله جميعاً.
كان إيصال الطرفة او النكتة التي يتداولها مجلس السياسي والصحفي الى القارئ موضوعاً ممتعاً بالنسبة لذلك القارئ الذي كان يعدها نوعاً من التنفيس عن مشكلاته اليومية ووضع هؤلاء من القادة السياسيين والمحامين ورجال الأحزاب موضعاً قريباً من البشر الآخرين, وهم يمرحون وينتقدون ويسخرون.
أغرب خطب المنابر
من مجالس منطقة الكرخ الكثيرة قديماً مجلس الشيخ محمد سعيد مصطفى الخليل الذي اشتهر بالظرف والأدب وملازمة مجلس العلّامة محمود شكري الآلوسي, إذ كان تلميذاً له, لكنه اشتهر بحبه للنكتة وتدبير المقالب ومحبة الناس له من أصحاب المجالس الأخرى .
افتتح الخليل مجلسه الخاص بالكرخ حيث يرتاده من يأنس اليه من الكرخيين وسواهم .وقد عين الشيخ الخليل واعظاً في جامع (حنان) المقام الى يومنا هذا في ساحة الشهداء.
يقول الدروبي إن الناس كانوا يجتمعون في مجلس الخليل لسماع وعظه وما يتخلله من طرائف ويقول ايضا :(من ذلك أنه يوماً كان بحثه عن الجنّة ونعيمها وما أعده الله لعبيده الصالحين فيها فاستأنس الناس واستبشروا بالحظوة بالجنّة, فقال لهم : أراكم استبشرتم بما ذكرت من أخبار الجنّة ونعيمها وحسبتم أنفسكم من أهلها ؟ ان هذه الوجوه التي تحت منبري هذا لا يحسب ولايظن أنها سترى الجنّة أو تدخل فيها لأن الجنّة أرفع من أن تدخلها مثل هذه الوجوه, فقالوا له ياسيدنا نحن أصحابك وجماعتك أفما تفرح بما يصيبنا من نعيم الجنّة فقال لهم والله لو أن ملكاً من الملائكة نزل الآن من السماء وقال أن مثل هؤلاء الناس يدخلون الجنّة ولو دخلتم الجنّة لأبحت لكم كل شيء فضجّ الناس بالضحك وانتهى المجلس بتلك الفكاهة).
المقاهي المجلسية
يقول حسين الكرخي(ص13) إن أغلب كتّابنا لم يهتموا بهذا اللون بسبب (إما أنهم يعتبرون تسجيل أمثال هذه الأخبار في بحوث وتصانيف أمر لا يتفق وروح العصر الذي يعجّ بالمذاهب والتيارات الأدبية المتصارعة والتي لامجال في ميادينها للمواضيع الكلاسيكية القديمة). ونعتقد هنا أن حوارات هذه المجالس لاتمتّ الى صنف محدد من صنوف الأدب، فهي مساجلات كلامية طغت عليها الفكاهة او الانتقاد شعراً ونثراً, وعلى ذلك نجد الكرخي يقول مضيفاً:(كانت لأدبائنا وشعرائنا بالأمس مجالس عامرة انتظمت حلقاتها في البيوت والمقاهي وإدارات الصحف وغيرها, فكان مقهى (سبع) المواجه لباب وزارة الدفاع القديم (المقصود هو باب الدفاع القديم المطل على مطبعة شفيق وبيت الجادرجي), ومقهى عارف آغا قرب جامع الحيدرخانة ومقهى الزهاوي في الميدان ومقهى (وهب) في محلة البقجة ( ووهب هذا بطل البستة البغدادية :الله الله يا وهب – ناشر على الكذلة ذهب!) ومقهى عزاوي الشهير (بطل البستة :يا كهوتك عزاوي –بيها المدلل زعلان) ومقهى المميز ومقهى البيروتي في جانب الكرخ (وكانت عند كتف جسر الشهداء ويجلس فيها كل أدباء وشعراء الكرخ والوجهاء والفقراء أيضاً ومنهم :الملا عبود الكرخي والمحامي الشاعر مهدي المقلد والصحفي عبد القادر البراك والشاعر والإذاعي عبد المجيد الملا وسواهم).
المجالس الاجتماعية
وينبغي لنا هنا، ونحن نتحدث عن بغداد، ألا ننسى أن وجود المجالس الاجتماعية لا يقتصر على العاصمة بل كانت المجالس ظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية في كل مدن العراق, إضافة الى الصفة العشائرية للديوانيات والمضايف التي تتميز بها كل عشيرة عراقية, لكن تلك المضايف كانت تتعلق عموماً بصفة الإدارة العامة لزعيم القبيلة وللتباحث في شؤون ذلك التجمع القبلي، وقد تتحول الى دواوين سياسية كما هو الأمر في تغيير مهمة هذه الدواوين خلال انتفاضة العشرين وثورات عفك وجليحة والدغارة عام 1936 وسواها في المشخاب والرميثة والسماوة في أوقات مماثلة, لكن هذا يعد مدخلاً لموضوع آخر عن مهمة المجالس والمضايف السياسية.