النجف ــ علي سمين ديدار/
تأثُرُ الشعراء بمن سبقهم أمر طبيعي عاشته وشهدته الآداب العالمية، وهي ما زالت على هذا المنوال رغم التفاوت الحاصل في أدب كل مجتمع بين قرن وآخر، والتطور أو التردِّي الذي يشهده الأدب، ولاسيما الشعر، في المجتمعات.
إلا أن الاختلافات والفوارق التي تظهر على الساحات الأدبية لم تستطع القطع والفصل بين جيل وجيل من حيث رفع تأثير الغابرين وتأثر اللاحقين، فكأن الأدب وملحقاته ينتقلان من يد الى يد ومن جيل الى جيل مع إضفاء تغييرات على هذه الأمانة من قبل من جرى تسليمها إليهم.
شعراء كُثر مسح الدهر بأذياله على أسمائهم، فطُمست معالمهم حتى لم نجد لهم اسماً ولا أثراً. لعل الأسباب كثيرة في أن تنال شخصية أدبيةٌ مندوحةً تجتاز أجلها المكتوب وتعيش أكثر مما كُتب لها من عمر وتحصل على ذكرٍ يمتد بعد مماتها لمدد من الزمن. لذا نجد ان بعضهم أحياء مع مرور قرون على وفاتهم. وهذه الحيوات على فوارق وتفاوت من شاعر الى آخر، فكل حسب قوة شخصيته أو وفور حظه، فمنهم من يتجدد اسمه وذكره وشعره أمام أعيننا وقُرب مسامعنا، برغم مرور مئات السنين، ومنهم من لم تكتب له إلا حياة قصيرة لا تتجاوز عقوداً من الزمن، ومنهم من يمكث حياً بين أبناء جلدته، ومنهم من تفتح له المديات وتتسع أكثر فيكون علَماً يتجلى في جميع الآفاق. لذلك لا غرابة حين نألف التُرك وهم يولون بجلال الدين الرومي اهتماما ليس أقل من اهتمام الفرس به.
محمد بن سليمان الفضولي له شغفه الشديد بالشعر يتجلى من بيت له في منظومته (ليلى ومجنون) إذ يعد الروح شعراً:
(جان سوزدور اگر بیلرسه انسان .
سوزدور کی دییه رلر ئوزگه دیر جان ) .
(الروح هي الكلام لو يدرك الإنسان ..
فإن قيل إن الروح ليس كلاماً فلا يعدو هذا غير كلام.)
لا حدود للإبداع
اسم فضولي لا تحدّه بقعة ولا ينحسر بحدود. هذا الشاعر الذي أبدع في كثير من أشعاره بالفارسية، وكان القدوة التي اقتدى على آثارها جل أُدباء الترك. وما زالت هذه الشخصية تفرض نفسها وسلطانها فكراً وأسلوباً في ساحات الأدب التركي وبقوة لا يضاهيها أحد. بلغ ويبلغ من التأثير حدّاً تتناقل أشعاره ألسن الترك شيباً كانوا أم شباباً. كم من رجل بالغ من العمر عتياً سمعناه يردد أشعاراً لفضولي عن ظهر قلب. القارئ المرحوم ملا غالب البشيري، في أوائل السبعينيات، أجاد بصوته العذب في إنشاد إحدى قصائده، ومازال ذلك الصوت يرنّ في الأسماع تتلقفه صفحات التواصل الاجتماعي.
أُعتقد أن الاشتهار يتحقق بمشيئة الأقدار، ولهذا نجد منذ عقود من الزمن وإلى الآن، الكثيرين وقد علقت على ألسنتهم قصيدة واحدة من فضولي وهي:
( بنى جاندان اوصانديردى … جفاده ن يار اوصانمازمى ؟
أي
(أسأمني الحبيبُ الحياةَ فكيف لا يسأم هو من الجفاء؟)
بينما غفلوا عن قصيدته الفريدة التي تكاد تخلو من الألفاظ الدخيلة وتتمثل في:
(منده مجنوندان فزون عاشقليغ استعدادى وار
عاشقِ صادق منم مجنونون آنجاق آدى وار .
اهلِ تمكينم منى بنزتمه اى گول بلبله).
أي :
(أنا في العشق أكثر استعداداً من مجنون ليلى..
فأنا العاشق حقّاً وله اسمٌ فحسب..
أيها الورد لا تسوِّ بيني وبين العندليب..)
الجزالة البلاغية
ربما جزء من الأقدار أنال فضولي شهرة واسعة وامتداداً طويلاً لتلك الشهرة، هو ما يتمثل في الجزالة البلاغية التي تتصف بها اشعاره التركية والفارسية، حيث البلاغة ببيانها ومعانيها وبديعها تُبرز نفسها بوضوح. لكن الباحث أو المتتبع لا يجد صيتاً له بين أدباء إيران الفارسيين. ولعلنا إذا أردنا أن نعزو ذلك الى أسباب، فمن المحتمل لأنه غير منسوب الى مدينة إيرانية من حيث الولادة، او لتمجيده السلطان سليمان، وهذا ما أفصح عنه أحد رجال الدين العظام حين سئل عن عدم تعاطفه مع أشعار فضولي. كما يمكننا الالتفات الى لقبه الذي خص نفسه به، فلربما يشعر الفارسي بخجل من أن يلقب شاعره بثرثرة.
ومما أثار تعجبي أكثر هو أن الشاعر الإيراني التبريزي المعروف (شهريار) أيضاً لم يتطرق الى اسمه ولا الى شعره، ما عدا بيت شعر نقل عنه بعد وفاته، وكان الناقل المرحوم أصغر فردي التبريزي، الذي نشر قصيدة نسبها الى المرحوم شهريار، وهي تشكر الناقل في بيت وتشير الى فضيلة فضولي في بيت آخر.
استغراق وإحاطة
تعدُّ مثلبة حين يستغرق قارئ في بيت شعر من أجل الوصول الى المعنى وهو يتردد بين اللفظ وما يكتنفه، مستثيراً الخيوط الدقيقة التي تربطهما. لكن جل أشعار فضولي التركية والفارسية تستدعي استغراقاً من دون أن يمل القارئ، بل يزداد شوقاً كلما استطاع أن يميط ستاراً حتى يلج في المفهوم.
باعتقادي أن أشعاره التركية تفقد الحيوية والاستمرارية لِما يملأها من ألفاظ وكلمات فارسية كثيرة، وهذه الصفة تجعلها عرضة للنقد، إلا حين نستند على حجة: أن اللهجة حينها كانت على تلك الحال، فالدخيل أيام فضولي كان يحتل مساحة واسعة من اللغة التركية، أما أشعاره الفارسية فمثلها كمثل أشعار الشيرازيين سعدي وحافظ، إذ لا يخامر أشعارهم الدخيل إلا لِماماً.