محمد علوان.. قصص تُدين الحروب العبثية

صباح محسن كاظم /

لعلّ ثمة رفض في القصص التي يتناولها الروائي والقاص المبدع “محمد علوان ” الذي استل تلك القصص من واقعنا إبان الحرب العراقية الإيرانية لِينتقد الدكتاتورية والفاشستيه لزج شعبنا العراقي بحروب مع جيرانه. قصصه من واقعنا السياسي والاجتماعي، وتأثيرات الحرب إنسانياً، وما أفرزته الحروب المتكررة من معاقين وشهداء،
تتساوق وتتماهى تلك القصص باسلوبها السرديّ المُشوق بإيحاءات شعرية، وتقنية سرديّة أُحكم فيها توصيل الرسالة ،عَبر فيها “جبر” عن قصص الواقع عن طريق توظيف حوادث، وشخصيات متخيله، وواقعية، بصورة جماليّة..وفنية .. مُحكمة تحمل دلالات الإحتجاج، والإدانة ، والرفض، لنكبات وويلات الحروب والدكتاتورية، بالرغم من حجم البؤس.. والشقاء.. والألم .. في حرب الجبال الوعرة ، وكمية الصواريخ ، والمقذوفات على الملاجئ، والصخور التي لم تبقِ ولاتذر جزءا إلا وهشمته. حتى دفتر المذكرات ومادوّنه المقاتل برسائل لحبيبته.. كما صوّره بتدفق وانثيالات مُوجعة لحياة الجنود من كلتا الجبهتين: الهلع ،الترقب ،الخوف ..في تلك القصص الإنسانيّة التي تضجّ بالوجع ،لكنها تُعبر عن قلب يتحسس آلام الآخر ويُنشد للمحبة والسلام، ويُقَرِع مُشعلي الحرائق، التي بسببها قضى شبابنا حياتهم بين الملاجئ يبتعدون عن أحضان الأمهات، والزوجات، والحبيبات .. اتسمت المجموعة بصياغة مُتقنة ومقننة بالنسق القصصي الذي اعتمد الشعرية بالقص، والقدرة على التحكم بالإيجاز في السرد، وتفاوت تلك القصص بعدد الصفحات، بين راوٍ مجهول الاسم، وبين أحداث واقعية المضمون والثيمة، واستذكارات لمشاهد وصور الحرب المُرعبة. كرّس جهده بتلك المجموعة بقصص مؤثرة اختزلت أنين وصراخ وبكاء الثكالى من النساء العراقيات، تعدد مستويات السرد من قصة إلى أخرى : (وجود مخطوط/ مذكرات قديمة / استرجاعات) وكذلك برع في سرد ثنائيات (الحب –الموت ) ببوح تكثيفي لم يفرط بإيقاعات السرد بل أوجز لكي لاتترهل تلك النصوص وتضيع بفضاءات وآفاق السرد الممل. فضلاً عن الكشوفات السايكولوجية بالغور بعمق الجروح ، والندوب التي تركتها الحروب في آلاف من المعاقين وفاقدي الأطراف ..

(تراتيل العكّاز الأخير) دار عدنان / 104 صفحات /13 قصة (حفارو الخنادق – ضوء أزرق أسفل الوادي-–صهيل العربة الفارغة –أغنية قديمة – انقلاب- ملاذات طالب العجيبة – دخان المظلة- الأوبتيما الزرقاء- سراعاً تمضي السحب- غبار حلم آخر –جسر الملائكة –مطر بلون الرثاء )..جاء بالإهداء :

إلى .. سيدة القلب وأيقونة المسرات.. إلى .. من شاطرتني ..الحلم ..والألم ..والألم والإشراق.. إليك ….دون غيرك .أيتها الروح التي لاتتكرر . ومن حفاري الخنادق والمعاول التي يحملونها لحفر الملاجئ وهم قادمون بالكوستر لمجاهيل النهايات والحتوف.

تحكي قصص القاص والروائي “محمد علوان جبر” أزمنة المرارات، ففي قصة “ضوء أزرق أسفل الوادي” ص 9 :

بدا الأمر كأنه دخول مغارة معتمة إلا من بضع كتل شكلت مدخلاً ضيقاً، تنفذ منه خيوط ضوئية على هيئة أشكال صغيرة بدت عصية على عقلي، ثم وببطء مذهل بدأت الكتل الغارقة في العتمة تبيح لغتها الطلسمية لي …

وفي القصة التي اتخذت عنونة للمجموعة وتعتبر من ثريا النص والتي تجعل للمتلقي الفرشة في قراءة وتأمل الوجع المكتنز في حكايا الأطراف المبتورة ،والحوار الذي يجري بين زوجة الراحل ومن يمتلك الأطراف وبين الراوي يختزل ويلات الحرب ومأساة الجرحى ومن قُطعت أطرافه ، تبدأ المفارقة حين يطرق الباب بطل القصة على زوجة أحد الذين بترت ساقه ولديه ( الساق الإصطناعية ) وهو يحاور المرأة أن سيكون زوجك سعيداً بقبره وأنت تتبرعين بطرفه الصناعي وهو المرتجى للتردد لبيت الأرملة. وقد تمكن القاص من إدارة الحوار بشكل مذهل ومدهش ص24:( سيدتي ، زوجك كان واحدا منا ، لم نفترق منذ التقينا في مركز تأهيل الجرحى، المركز الذي كان يقدم لنا الأطراف كما تقدم الأطباق في المطاعم ….)وفي قصته الأخيرة بالمجموعة “مطر بلون الرثاء ” يهديها الكاتب إلى ….مهدي جبار الراوي فيها غائب يتحدث عن مجهول الاسم الذي يكتب قصيدة يرثي بها صديقه الراحل، في تبادل أدوار، الأحياء يرثون الموتى وهكذا دواليك ..ص 98 ((….. معجبون بكل مقالات الرثاء التي تدبجها بعناية عنا وتنشرها في الصحف اليومية ..)

في الغلاف الأخير للمجموعة القصصية كانت هناك آراء مهمة مدونة من النقاد والمبدعين :

“في مجموعته الأخيرة، هنا، يجدِّد القاص محمد علوان جبر إثباتاً أهمَّ: إنّه، أدائيّاً ـ أداتيّاً، ذو دراية سردية متأتِّية من ثقته بمقولات النظرية الأحدث للسرد. هذه الدراية السردية، المتجلّية في مجموعتيه السابقتين كلتيهما، تتميّز الآن بالموضوعة المشتركة: “الحرب”، تحديداً، حيث العنوان الجامع لـ”تراتيل العكاز الأخير” فالإهداء المصرِّح بـ”الألم.. والأمل” ثم المتن النصي (الذي يستهلّه “حفارو الخنادق”، لا سواهم، فتبلِّلهم “شظايا” كـ”مطر بلون الرثاء”. لكنّ موضوعة مشتركة كهذه، قديمة ـ جديدة، ما كان لها، أبداً، أن تبدو ذات جدوى فنية، جمالية، لولا تعضيدها بنيويّاً وتقنوِيّاً معاً”.

بشير حاجم/ ناقد

“تتوغل هذه القصص في عوالم سحيقة من مأزومية الواقع والتباس اللحظة التاريخية، فهو يتماهى بسردياته مع موضوعات الحرب، الانسحاق الطبقي، الفقر، السجون، القمع . مستفيداً من خبرته في الفن السابع ليعيد إنتاج الوقائع السردية على وفق توليف صوري ومونتاجي، ولعل أبرز اشتغالاته اهتمامه المبهر بتعدد مستويات السرد وخلق منظورات بوليفونية والإفادة من تقنيات السرد الحداثوي .”

عباس لطيف / روائي وناقد

“بلغة مفعمة بالحيوية ومخيلة خصبة، شيّد لنا القاص” محمد علوان جبر” نصباً جميلاً من مخلفات الحرب، اسمه ” تراتيل العكاز الأخير “، كل حلقة فيه تحمل حساً إنسانياً عالياً، إزاء تلك الحروب وما خلفته من ندب وجروح في الروح العراقيه.”
حميد الربيعي/ روائي

“يقتنص محمد علوان جبر في هذه المجموعة الظلال التي يتركها وحش الحرب في مروره القاسي الثقيل على الأجساد والأرواح والأماكن؛ تلك الظلال التي توشم حيوات شخصياته في أعماقهم، كما لو أنها خطوط جروح غائرة عصية على الزوال.. هنا تتعاضد اللغة المقتصدة الرشيقة مع رؤية إنسانية حزينة وشفافة لتوليد نصوص سردية لا تنسى.”