فدوى عبود /
ليس للذكرى الصافية تاريخ، إنّ لها فصلاً بعيداً عن الذكرى المدركة عبر الإحباط والندم، إذ أن هناك منطقة يعمل فيها التخيل والذاكرة، منطقة روحية عميقة يطلق عليها الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار” في كتابه “شاعرية أحلام اليقظة”: علم التأملات الشاردة.
ولبيان هذه الأحلام التي عاشها أغلبنا سنعاين نقيضها، أي الأحلام الليلية. فبينما يكون الأنا فعالاً منفتحاً على الكون في الأولى؛ فإن الأخيرة مشهد دون أنا، وبينما تعبّر الأولى عن طفولة الروح، فالأخيرة سلبية تقلق هناءتها وتبث فيها التشويش والاضطراب. فكم من مرة اختبأنا في مكان منعزل (عليّة صغيرة أو بين أغصان شجرة)؛ وكم من مرة توارينا عن الأنظار لحظة استيقاظ الحالم في داخلنا.
يكتب باشلار في وصف هذه التأملات الشاردة: “هي انفتاح على عالم جميل، ابتلاع العالم الواقعي بالعالم التخيليّ.”
حيث المخيلة -بتعبير شيللي- تجعلنا نخلق ما نرى وهو يحلل بداية تكون الصورة الشعريّة داخل الوعي عبر حلم اليقظة Reverie -لحظة اتصال الروح بالأشياء عبر الخيال والذاكرة معاً، بحيث يمكننا أن نفهم كيف يتجلى العالم بعيون شاعر.
هندسة روحية
ليست هناك أية حدود بين الروح والعالم، الذي تتضافر في بنائه المخيلة والذاكرة والموجودات، إذ يبني الطفل في أعماقنا عالماً حميماً نؤثث فيه المكان وفق هندسة روحيّة خلاّقة: بيت العائلة، وساقية الماء، وشجيرة التوت، والزهور على الجدار، وقبة السماء الزرقاء، وينبوع الماء العذب.
إنها الأشياء كما تراها عين الطفل الذي كنا عليه والذي نستعيده عندما نكبر بمتعة وألم، إنه كائن التأملات الشاردة. كتب آلان بوسكو مرة: “سوف أقول ماذا كانت طفولتي: كنا نخرج القمر الأحمر من مخبئه في أعماق الغابات.”
وبينما نحكي أحلامنا، فإن حلم اليقظة يجب أن يُكتب بعاطفة وذوق رفيع. وفقاً لهذا تصبح الأعمال الإبداعيّة أحلام يقظة كتبتها يد طفل.
لم تكن أليس بلاد العجائب سوى الطفل لويس كارول في استعادته لعالمه السحري الأول. في رواية “ألعاب العمر المتقدم” للويس لانديرو تستيقظ فاعليه الطفولة عند غريغوريو أولياس بعد منتصف العمر؛ فيبدأ برؤية الأشياء والعالم ومن منظور جديد حتى لكأن طيفاً إلهيّاً مسّها.
الأحلام الشاردة
“عذوبة، بطء، سلام “، هذا هو شعار التأملات الشاردة؛ إنّها فلسفة كاملة في الراحة والاطمئنان، وبذا تتميز عن الحلم الليليّ؛ فبينما يكون الأخير محمّلاً بالانفعالات السلبيّة، فإن التأملات الشاردة جماليّة بالدرجة لأولى؛ وبينما يُطبَع الحلم بلهجة المذكر القاسي فالتأملات الشاردة أنثويّة.
إنّ الصورة الشعرية تنبثق عن هذه التأملات، فالأشكال التي تؤخذ من الواقع هي بحاجة للنفخ بمادة حلميّة، وبهذا ترتدي الأشياء الصلبة شفافية الروح، فلا يعود الحجر حجراً بل شيئاً يثير فينا الحنان والقوة وينتمي -عبر الخيال- إلينا. كتب باشلار: ” زهرة، فاكهة، شيء محسوس، بسيط ومألوف، كل هذه الأشياء تأتي فجأة لتطلب منا أن نفكر فيها.”
إنها علاقة حميمة مع الأشياء. وبما أن التأملات الشاردة أو أحلام اليقظة صورة، ولا يمكن درس الصورة إلا بالصورة، فقد قدم باشلار صوراً من قصائد كبار الشعراء؛ وهي تبرهن على عظمة الطفل الكامن في أعماقنا “فالطفولة لا تترك مطلقاً مراقدها الليلية. وفينا، يأتي الطفل أحيانا ليسهر خلال نومنا.”
إنها حيث كنا أحراراً من الخوف ومن الزمن، وسنتوق دائماً إلى هذه الجزيرة الهانئة بحيث تمثل كل القصائد اللاحقة التي يكتبها الشاعر هذا “التوق إلى الرجوع عكس التيار، إلى العثور على البحيرة الكبيرة ذات المياه الهادئة، حيث الزمن يستريح من الجريان.”
ينسب باشلار الهموم والخطط إلى المذكر ويطلق عليه (النَفَس) حيث يغيب الإنسان عن ذاته، أما التأملات الشاردة التي تعيش حاضر الصور السعيدة فهي تنتمي إلى المؤنث (النَفْس) ويبتغي بذلك رسم الخطوط الأولى لفلسفة علم المؤنث العميق الذي يختلف كليّاً عن علم النفس الذي يتجه لغياب الوعي، والذي يعتني بالطفولة المعذبة، فمن خلال تحليل شعري للصورة وللوعي الإنساني تعود لنا “كل امتيازات التخيل.”
إن جميع تأملاتنا الطفولية تسـتحق أن نبدأها من جديد، وأن توقظ فينا حالة طفولة جديدة، وتجسد الشيخوخة وعزلتها، هذا التوق إلى الطفل الذي كُنّاه، الطفل الحالم، وحين نساند هذا الأخير يمكننا أن نحول دون ظهور الطفل المستاء في داخل الكائن.
وفي كل قصيدة يدعونا الشعراء إلى إعادة تخيل الطفولة الضائعة، يعلموننا جسارة الذاكرة. كتب روبرت كانزو: “ليس ثمة عيد مفقود في أعماق الذاكرة.”
وتتحول الفصول الأربعة بموجب أحلام اليقظة، من مجرد ظاهرة طبيعية ومشاهد عادية يتلقاها الحس، إلى قيم روحية.
لكن ما أهمية أحلام اليقظة للإنسان؟
يجيب باشلار: “إنها تعني إمكانية البدء من جديد، فهي مخزونات حماس تساعدنا على الأيمان بالعالم، على حب العالم، على خلق العالم.”
كتب شاعر كبير: “طفولتي هي باقة روائح؛ فعندما تشم الذاكرة جميع الروائح تكون طيبة، يعرف الحالمون الكبار كيف يتنفسون الماضي.”
نوع من الأمل
إن الصفحات الخفيفة الظل والعميقة مصنوعة من صور وذكريات، وهذه الصور التي نفخت بمادة حلميّة ولدت من حلم يقظة أو تأمل شارد، وهي تتجه بكليتّها نحو الماضي، وفيها يعرف الكاتب كيف يضع نوعاً من الأمل في الكآبة، وليس أدل على ذلك من هذه السطور التي كتبها فاندر كامن مستعيداً بيت طفولته: “اجتاحت رائحة خبز ساخن بيت شبابي، وعادت على طاولتي فطيرة اللبن والبيض، ورغيف الخبز وتلازم أعياد هذا الخبز المنزلي؛ كان الناس في جزل للاحتفال بالخبز الساخن، وديكان على ذات السطح يُطهيَان أمام الموقدة القرمزيّة.. في أيام السعادة العالم يؤكَل.” علّق باشلار على هذا النص الممتلئ بهجةً بعبارة تختصر كينونة الإنسان: “أنني آكِلُ ذكريات.”