سريعة سليم حديد /
(أريد أمَّاً أخرى) عنوان لطيف لقصَّة طويلة للأطفال بقلم الكاتبة السورية ماريا دعدوش. ـ استخدمت الكاتبة صوت (تيم) في سرد الأحداث بأسلوب سلس مناسب لمفهوم المتلقي الصغير, هذا ما أعطى القصة قرباً لطيفاً من قلب الطفل حتى ليشعر بأنه هو ذاته يشارك في الأحداث.
وكعادتها في خوض الموضوعات الحسَّاسة، فقد اختارت موضوعاً شائكاً ومربكاً، ليس للصغار فحسب، بل ويحيِّر الكبار أيضاً, فهل يُعقل أن يفكّر الطفل في معاملة أمّه القاسية له بالتخلي عنها نهائياً؟ أليس موضوعاً كهذا يحتاج إلى دقٍّة وتأنٍّ في رسم مساره لأنه يضرب على وتر غاية في الحساسية, وتر العلاقة المتوتّرة التي يقف الطفل أمامها ضائعاً بمشاعره المتضاربة ما بين الحب والكره.
ـ تفتح الكاتبة جرحاً عميقاً في الحالة الاجتماعية المؤلمة التي طالما عانى منها الأطفال, وهي قسوة الأمهات عليهم, فكثيراً ما نسمع هذه القسوة التي تصدر عن عدد من الأمهات اللواتي يبررن أفعال العنف مع أطفالهن بنوع من التربية. لكن الكاتبة برَّرت قسوة (أم سامي) مع ولدها سامي بأنه طفل قد اُستبدل به في المشفى, حيث أخطأت الممرِّضة وأعطته إلى (سارة تمارة) الأم غير الحقيقية.
ــ من موضوع اللعب في المسبح, حيث كان يلعب تيم وسامي برشَّاشات المياه, أسقط سامي جوَّال أمه (سارة) في الماء. من هنا بدأت الكاتبة برمي خيوط القصة بمهارة في سلَّة القراءة الممتعة, فماذا ستكون عقوبة سامي إزاء هذا الحدث المريع بالنسبة لأمه؟
الأم تركت آثار طبعات حمراء من الألم على جسم سامي عندما ضربته بقسوة بالملعقة الخشبية, فلم يصدِّق تيم ما رأت عيناه, وحاول التخفيف عن سامي بإغرائه بآيس كريم الفراولة، أو اللعب، لكنه فشل في ذلك, بينما كان سامي يذرف الدموع بغزارة.
ـ قدَّمت الكاتبة الأفكار التي تدور في ذهن سامي بمنتهى العفوية, فمن الطبيعي أن يفكِّر سامي في ترك منزله ليبحث عن منزل يجد فيه الراحة النفسية والأمان, وأين يكون ذلك؟ سيكون في بيت أقرب الناس له, بيت تيم.
ـ تيم يجد أن فكرة سامي لا تناسب مفهوم العائلة ووضعها الخاص, كذلك يفاجئنا تفكير سامي وتيم في إيجاد مبرِّر يسمح لسامي بالعيش مع أسرة تيم, نقتطف:
“سحبتُ ذراعه, وأمسكتُ راحة يده.. لو كان دمي ودمك من النوع نفسه, فسيسمح لي أهلك أن أسكن في منزلكم.” ص25
ـ إن هذا الحوار يوجِّه دفَّة السرد نحو الجانب العلمي ليذكِّر المتلقي الصغير بالزمر الدموية ويدفعه ليتابع الأحداث بتشويق كبير. فماذا سيفعل الولدان للتأكُّد من تطابق الزمرتين, أو عدمه؟
ـ تبدأ الكاتبة الجزء المرقَّم بالعدد أربعة بنوع من الفكاهة والظرافة, فالحي الذي يسكن فيه تيم اسمه حي الغاردينيا, كل ما فيه يحمل اسم الغاردينيا: المستشفى, المدرسة.. لكن مخبر التحاليل الطبية الذي توجه إليه الصديقان لم يكن اسمه مخبر الغاردينيا بل مخبر التحاليل “يبدو أن صاحبه يحب وردة غير وردة الغاردينيا اسمها تحاليل.” ص27
في بداية الجزء الخامس يحاول سامي أن يرسم على الورقة خطَّة للتعرّف على أمه الحقيقية, فرسم دائرة، إذ سيبدأ بالسكرتيرة التي تعمل في المشفى من أجل أن تعطيه بياناً بأسماء الأولاد الذين ولدوا في التاريخ نفسه ليوم ميلاده، هنا تظهر المحاورة الذكية من قبل تيم الذي فكَّر بعمق وخرج بنتيجة مهمَّة, فمادام سامي قد وُلد في مشفى الغاردينيا فكل الأمهات اللواتي ولدن في ذلك اليوم هن من الحي نفسه, هذا يترتَّب على أن أولادهن سيدخلون المدرسة ذاتها في حي الغاردينيا, وسوف يحتفلون بعيد الميلاد في يوم محدَّد أيضاً.
هذه الفكرة تروق لسامي، من هنا يتَّفقان على البحث عن والدتي ياسر وفارس, آخذين بعين الاعتبار موضوع الشبه مع سامي.
ـ تحرص الكاتبة على رسم شخصية سامي بطريقة ذكيَّة, فتجعله مرناً في التعامل مع المواقف الحرجة, ويفكِر في طرق ذكيَّة للخروج من المآزق, فعندما ذهب برفقة تيم إلى بيت صديقهما ياسر, وقعا في ورطة حين وقفا أمام بيت ياسر, وقد فتح والده لهما الباب, وأخبرهما أن ياسراً غير موجود, عندها تحجَّج سامي بحجَّة ذكيَّة لحظة علم أن ياسراً غير موجود في البيت.
تتعقَّد الأحداث, لكن ليس لدرجة وصولها إلى حد لا يمكن للمتلقي الصغير أن يفهمه, بل بقيت محافظة على توازنها في سهولة الفهم لما تمتلكه من حسن الصياغة وبراعة السرد. فوالد تيم يزور والد ياسر في الوقت نفسه الذي يكون الولدان سامي وتيم في بيت ياسر، ما يضطرهما إلى التخفِّي بشرشفين للخروج من المنزل, وقد تمَّ هذا بمساعدة أخت ياسر الصغيرة, ومن خلالها اكتشف سامي وتيم أن والدة ياسر ليست أم سامي, فملامح وجهها لا تشبهه على الإطلاق.
تنتهي الأحداث باعتذار أم تيم لابنها, فالقسوة التي عاملته بها ما هي إلا نتيجة قسوة والده عليها. ـ القصة باختصار توجه الكبار -بالدرجة الأولى- إلى الاهتمام بأولادهم, كما أنها تعلم الأولاد الصبر وتحمّل مشاكل الأسرة قدر الإمكان.