آمنة الموزاني/
متصوفٌ كخرزة كهرب في ليلِ البنفسج، وعرفانيٌّ يحكي نبوءات الشعر التي كانت ترتدي بحّة الحزن الحار لتجعل من الأبيات في حنجرته معطفاً دافئاً يرتديه كل المقهورين في هذا العالم.
غاب النّواب وبقيَ البنفسج عليلاً في ليل العاشقين، وهاجرت زرازير البراري نحو الأهوار تبحث عن آخر مشحوف حائر يحمل تلك العروس الحزينة وهي ترتل “روحي ولاتكَلها شبيج وانته الماي مكَطوعة مثل خيط السمج روحي”، مع أنها في “حن وانه احن” اختارت أن تهدهد الروح المكلومة وتنعشها بأمل،ٍ وإن كان موهوماً، ربما لأنها تدري بأن “نوبات” المحبة تملُّ طبع محبوبها، فجاء الوجع المنقذ على هيئة قطرات ماءٍ في فمِ محتضر، لذلك لم نكن عاديين حين أحببنا مراثيك الغنائية، وإنما كنا ننمو ونخضرُّ ونموت داخل كلِّ فصولها.
ومع ما في صدري من نخرٍ مريع كنت تشخصهُ بوجعٍ متخثر برائعتك “مدري منهو يشگك بگلبي الكواغد”، لكن صدقاً فإن رحيلك شذّ عن قاعدة الحنين أيها الصوفي المتمرد على كل شيء إلا “العراق”، وأصبح الشعر والغناء بعدك يتيمين يا فيض، وتوقفت محطة الريل وحمد، وجرح صويحب بعطابة بعد “مايلتم” أيها السومري المؤدلج بالابتسامة الدامعة والرقة والهدوء وأغاني الحنين.
عني شخصياً، أنا مؤمنة بأنهُ ليس هنالك من رثاء يليق بحضورك داخل الوجدان غير التظاهر بالموت، أيها الشاعر الماكث في ديمومة الأنفاس وصمت المحنّة، فالشعراء، كما يقول الفرنسي الكبير جان كوكتو، حينما أخرج فيلماً قصيراً يصور فيه جنازته أثناء حياته، قال فيه لأصدقائه وهم يرافقونه لمثواه الأخير”لا تبكوا هكذا، تظاهروا فقط بالبكاء، فالشعراء لا يموتون، إنهم يتظاهرون بالموت فقط”..
النّواب المولود في بغداد عام 1934 لعائلة أرستقراطية، تهتم للغاية بالفنون والآداب والشعر والموسيقى، وكثيراً ما كان قصر العائلة المطل على نهر دجلة مقراً لجلسات وحوارات شديدة الثراء بين الكتّاب والشعراء والسياسيين، فهو منذ صغره وموهبته الشعرية في اللمعان كان ينشر قصائده في مجلات الحائط المدرسية لأن أسلوبه يتمتع بالجذب الشديد من خلال إلقائه الاستثنائي للشعر، وهو ما خلق له قاعدة جماهيرية خاصة وعريضة للغاية في العالم العربي.
المؤلم أن شاعر الوجع والثورة والمعارض السياسي والناقد والفنان التشكيلي، تعرض للملاحقة وسجن في العراق وعاش بعدها في عواصم عدة منها بيروت ودمشق، ومدن أوروبية أخرى. وصف بأنه أحد أشهر شعراء العراق والعرب في العصر الحديث بعد سلسلة طويلة من القصائد التي تناولت قضايا عديدة سياسية وثورية واجتماعية وإنسانية.
مناضل الشعر الذي أغضب الأنظمة العربية غادرنا بعد رحلة طويلة حافلة للغاية ومليئة بالإبداع والشعر والمطاردات والتعذيب والهروب، إذ توفي النّواب عن عمر ناهز الـ 88 عاماً في أحد مستشفيات الإمارات التي استقر فيها إلى حين وافته المنية.
في يوم رحيله ادلهم ليل البنفسج وأُغلق الدفتر ولم يعد للكهرب وصف يليق به، فقد تعطل الريل وفقد حمد طعم الهيل، ولن يسمع (دگ الگهوة) بعد الآن، وقطعاً حزنت لأجله القدس عروس عروبتنا، وفقد الثوريون والمناضلون في هذا اليوم الصعب شاعرهم الذي ستبقى (نگرة السلمان) شاهدة على كلماته وعلى قباحة وإجرام البعث.