استطلاع أجراه: د.علاء حميد إدريس /
حين تزور مكتبات شارع المتنبي باحثاً عن كتاب، أو لكي تطلع على ما يعرض من مطبوعات على بسطات بائعي الكتب، قد يلفت نظرك أن حصة الكتاب العراقي تكاد تكون قليلة، فعلى الرغم من التغيير الذي حصل بعد عام 2003، والخلاص من قيود المنع في الطباعة والنشر، إلا أن هذا لم يؤثر كثيراً على حركة التأليف والطباعة للمؤلف العراقي، إذ بقيت قضية التأليف تواجه صعوبات كثيرة تبدأ منذ لحظة إنهاء الكاتب لكتابه مروراً بطباعته ووصولاً إلى تسويقه.
ولمعرفة بعض جوانب هذه الصعوبات، أجرت “مجلة الشبكة” هذا الاستطلاع مع عدد من الباحثين والكتّاب والمؤلفين العراقيين، الذين طرحنا عليهم أسئلة تتعلق بالكتاب وتسويقه، كالصعوبات التي واجهوها عند أول كتاب نشروه؟ أو معرفة قرارهم حين يخيَّرون بين طباعة مؤلفاتهم داخل العراق أو خارجه؟ وأسباب اختيارهم هذا؟ أو كيف يصفون ازدياد دور الطباعة والنشر بعد عام 2003، وإلى ماذا يؤشر؟ وهل تسوّق دور النشر في العراق الكتاب جيداً؟ أم أن هذا الأمر يقع على عاتق المؤلفين؟
قلة المعارض
يقول الباحث والكاتب والصحفي (نجم الشيخ داغر)، المهتم بالبحث والتأليف في مجال التراث الإسلامي، إنه واجه صعوبات كبيرة في الطباعة بعد إنجاز كتابه الأول، بسبب عدم تعاون أصحاب دور النشر معه، ويعزو أسباب هذه الصعوبة إلى قضية الاسم والشهرة، فهو حين قدم كتابه للنشر لم يكن معروفاً. وأضاف (الشيخ داغر) سبباً آخر عرقل مسيرة المطبوع العراقي، هو ارتفاع أسعار نشر الكتب في العراق قياساً إلى الكلفة التي تضعها دور النشر اللبنانية، وهذا ما دفعه إلى التعاون مع دار نشر لبنانية. وفي ضوء تجربته الأولى، فإنه لا يفضل النشر في دار نشر محلية، كما يلفت الانتباه إلى وجود فارق كبير بين دور النشر العراقية والعربية، إذ يرى أن الدور العربية تتفوق في الجانب الفني وفي التوزيع، كما أن هذه الدور تشارك في أغلب معارض الكتب التي تقام في مختلف دول المنطقة، الأمر الذي لا يتوفر عند أغلب دور النشر المحلية. ويؤشر (الشيخ داغر) قيداً جديداً يعطل نمو مجال التأليف والنشر في العراق، هو عدم وجود قانون يحمي حقوق النشر، الذي يمكنه معالجة قضية استنساخ الكتاب وتزويره وعرضه بأسعار أقل من ثمنه الحقيقي. أما بخصوص ازدياد دور النشر فهو يرى فيها حالة طبيعية، تزامنت مع غياب رقابة النظام البائد وأسهمت بتنشيط حركة التأليف والنشر.
أما عن التوزيع والتسويق يبيّن (الشيخ داغر) أن الدور المحلية غير نشطة، عازياً ذلك إلى ضعف إمكاناتها المادية التي تمنعها من الاشتراك في المعارض الخارجية، مشيراً في حديثه أيضاً إلى قلة تنظيم معارض الكتب الداخلية، وأن دور النشر تعوّل كثيراً على معرض بغداد الدولي للكتاب، أو معرض أربيل، وهذان المعرضان – كما يرى- لن يغطيا بطبيعة الحال المساحة التي يحتاجها المطبوع للانتشار، وهو ما يضطر المؤلف بسببه إلى أن يأخذ على عاتقه مسؤولية توزيع كتابه وتسويقه.
تحدي الكتابة والتأليف
في حين يذهب الباحث في مجال الأدب واللغة (عادل عباس الخالدي) إلى أن قضية التأليف والنشر بالنسبة له كانت تمثل تحدياً في القدرة على الكتابة، أي في امتلاكه الثقة والقدرة على هذا الأمر، لذا راح يواجه نفسه بأسئلة من قبيل: كيف أكتب كتاباً؟ ومن أين لي القدرة اللازمة على ذلك؟ إذ كانت لديه مخاوف تؤرقه، وحاول في أيام الشروع بالتأليف تقليد بعض الكتب التي قرأها وأعجب بها، لكنه لم ينجح، إذ اكتشف أن الكتابة قدرات فردية خاصة قد يتمتع فرد بها بدرجة عالية وآخر بدرجة أقل، ليشرع بعدها في تجربة أول مؤلف له ويتخطى هذه العقبة. لا يميل (الخالدي) إلى نشر كتبه في دور نشر محلية مفضلاً الطباعة خارج العراق، عازياً ذلك إلى عدم اكتمال تجربة النشر المحلية، وقلة نصيبها من المهنية، إذ تغلب عليها النزعة التجارية الربحية، ومع تحقيق جزء من هذا الجانب الربحي، إلا أنها تكاد تخلو من الخدمات الطباعية التي تثبت حرفية تلك الدور ومهنيتها، كما يشير إلى أن الاستعجال هو الطابع الغالب على عملها، ولهذا حين نراجع مطبوعات تلك الدور المحلية نجد أخطاء لغوية وفنية في تصميم المطبوع وإخراجه، ومع ذلك لا ينكر (الخالدي) امتلاك الدور العراقية المهنية والتميز، معللاً حرفية دور النشر العربية بامتلاكها الخبرة والرصانة اللتين اكتسبتهما من تاريخ عملها الطويل وتجربتها في هذا المجال، فضلاً عن قدرتها في تسويق مطبوعاتها ومشاركتها في أغلب معارض الكتاب العربية والدولية، ما يمنح المطبوع نسبة أكبر من القراء، مشيراً إلى أن هذه الأسباب هي التي جعلته يفضل دور النشر العربية على المحلية.
وعن ازدياد دور النشر المحلية، قال (الخالدي) إنها كانت واحدة من ثمار سقوط النظام السابق الذي كان معروفاً بتضييقه الخناق على الحريات، ومنها حريتا النشر والتعبير، لذلك أسهمت هذه الدور المحلية في دفع عجلة التأليف والنشر للكتاب العراقي، كما أنه يحيل ضعف تسويق المطبوع المحلي إلى أن دور النشر المحلية ليست خبيرة في عمليات الإشهار والتسويق، مضيفاً أن ذلك مردّه إلى حداثة التجربة في هذا المجال، وأن هذه الدور المحلية ذات إمكانيات مادية محدودة. ومع ازدياد دور النشر بعد عام 2003 إلا أن نشاطها انحصر في بيع الكتب، مشيراً إلى أن هناك قلة ممن أخذوا يقتحمون مجالات النشر والتأليف والترجمة، لهذا تقع على المؤلف مهمة تسويق كتابه وتوزيعه. وبيّن (الخالدي) أن دور النشر اليوم في بداية الطريق فقد تنجح أو تفشل، وهذا كله مرهون بما يجري من أحداث في الساحة العراقية.
الإمكانات والعقبات
الكاتب (عبد الجبار خضير)، وهو باحث في مجال التراث العراقي، يعتقد أن أول عقبة أو معضلة تواجه المؤلف العراقي، سواء أكان شاعراً أم روائياً أم كاتباً، أنه سيقدم جهده الفكري دون مقابل، وقد يكون المقابل بخساً، وهذا الأمر لا يحدث في معظم دول العالم، فالجهود الفكرية تحظى باهتمام كبير ومكافأة تشجيعية تصل في بعض الدول إلى 100 ألف دولار، أو أكثر من 25 ألف جنيه استرليني في دول أخرى، مضيفاً: “فالولايات المتحدة الأميركية مثلاً كانت قد أنفقت 461 مليار دولار على البحوث العلمية والإنسانية في عام 2013، ولذلك حصلت على مبالغ كبيرة تصل إلى المليارات من الدولارات تعويضاً عن حقوق فكرية لأميركيين يسكنون خارجها، لكننا في العراق لا قيمة تذكر للبحوث العلمية والجهد الفكري في مختلف العلوم والآداب. وأشار (خضير) إلى أن أول تحدٍ واجهه في مجال التأليف والنشر، هو توفير قرابة 500 دولار من أجل طباعة 500 نسخة من كتابه، وهو مبلغ باهظ للكتّاب والمثقفين الذين يعانون من الإهمال الحكومي المتعمد منذ تأسيس الدولة العراقية حتى الآن، وأن ما جنّبه إنفاق هذا المبلغ هو تكفل مكتبة ودار (نابو) للطباعة والنشر بطباعة كتابه على حسابها. أما بشأن المفاضلة بين دور النشر المحلية والخارجية، قال (خضير): “إن المؤلف يميل إلى اختيار دور النشر الخارجية، إذ أن فيها فرصاً لتسويق الكتاب وأحياناً تمنح المؤلف حقوقاً مالية.” مضيفاً أن ازدياد دور النشر بعد عام 2003 لا يمثل علامة جيدة، إذ يعتقد بوجود فوضى في مجال النشر، فقد تحولت المكتبات إلى دور نشر، تقابله محدودية منافذ التوزيع والتسويق، مبيّناً أن غياب التقاليد والخبرة في اختيار الكتاب الذي يستحق الطباعة أسهم في تراكم المشاكل والأزمات لأغلب تلك الدور المحلية.
رهانٌ على الجودة
في حين أشار القاص والكاتب (رعد الفندي) إلى أن الصعوبات التي تواجه التأليف والنشر تكمن في الخشية من أن ما يكتبه المرء لا يجاري كتابات الآخرين من الأدباء الذين سبقوه، ولهذا يظل الكاتب في شك أحياناً ويراوده سؤال ملح: هل يا ترى ستلاقي أفكاره اهتماماً من المتلقي، وهل ستجد لها موطئ قدم وسط زحام الأفكار والنظريات والكتب؟ وهل سيوفر ما يكتبه متعة للقارئ؟
كما لا يغفل (الفندي) رأي الناقد الأدبي، الذي يمثل رقيباً معنوياً غير مباشر، أما بشأن خياره بين طباعة كتابه في دور النشر المحلية أو الخارجية، فيقول (الفندي) إنه يفضل المحلية بشرط توفر عناصر جودة الطباعة وسهولة النشر والتسويق، مضيفاً أنه على الرغم من ازدياد أعداد دور النشر المحلية، إلا أنها – كما يرى- ما زالت تفتقر الى المهنية التي توفر جودة الطباعة والنشر، وهذا ما جعل بعض مطبوعات تلك الدور (والحديث للفندي) تغيب عنها الدقة والمتابعة لما يجري في عالم الطباعة، عازياً ذلك إلى أن أغلب تلك الدور كانت مكتبات تحولت إلى وسيط لدور نشر محلية أو دولية.
وعند سؤالنا عن كيفية تسويق الكتاب للمؤلف العراقي، قال (الفندي): إن ضعف النشر وضبابية التسويق وغياب الثقة، هي من الأمور التي جعلت المؤلف العراقي يبتعد عن دور النشر العراقية من أول تجربة له، وذلك جعله في دوامة البحث عن طرق للترويج عن نفسه، فغالباً ما تنتهي علاقة الكاتب مع تلك الدور في مرحلة طبع النسخ الأولية الخاصة به، ولاسيما أن الكاتب المبتدئ لا يبحث عن الربح الذي يُعد هو المعيار المادي والأساسي لدور النشر، بقدر ما يهتم بالترويج لكتابه.