عبد الأمير خليل مراد /
لقد اقترح جورج ماي لكتابة السيرة نزعات أربع تتلخص في النزوع إلى الكتابة النثرية واستغراق فترة طويلة من حياة الفرد, والحقبة الزمنية التي وصفها بسن النضج او الشيخوخة, والصدق في تناول الأحداث.
في كتابه (ناجح المعموري .. غواية الأسطورة وسحر الكلام)، يميل الكاتب احمد الناجي الى تقديم قراءة سيرية لحياة المعموري, وتحولاته الاجتماعية والثقافية, بدءاً من استذكارات الطفولة, وانتهاء بنضجه الثقافي من خلال المكابدات الاسترجاعية، واستنطاق محطات المعموري الحياتية، وحضور السيرة في فضاءات النص الأدبي, حيث تجلى هذا الحضور في قصصه المبكرة وروايتيه (البحر) و (مدينة البحر)، إذ يتبين من هذه المدونات الوقوف على مشروعه الثقافي وبدايات مشواره مع الكتابة.
إن الكتابة السيرية غالبا ما تكون بخط الكاتب نفسه، لكونها كتابة تمنح القارئ لمحات استثنائية عن شخصيته في ذهن المتلقي من خلال تعرية الذات والمكاشفة والصراحة في سرد الأحداث، وأن تأتي على كل ما هو مضيء أو معتم في تلك السيرة, ويمكن أن تتحول بمرور الزمن إلى وثيقة تاريخية يتداخل في مضمونها الواقعي بالحلمي.
استدعاء التاريخ
إن ثقافتنا العربية تنتظم في تجارب سيرية مبكرة لبعض الرواد والأدباء الأوائل كأحمد أمين والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحنا مينا ومحمد شكري وبصيغ أخرى، كمذكرات عبد الرحمن عزام وغيرهم، وهي سير ذاتية مكتوبة بأنامل منتجيها حيث تختلف إلى حد كبير مع هذه السيرة التي قام منشئها الكاتب أحمد الناجي بإخراجها من خلال الاستملاء الشفوي للمعموري نفسه, فضلا عن الحفر في التاريخ السري وتوظيف أرشيفه الشخصي في ملاحقة مفردات الماضي، وجرى استدعاء التاريخ كمرجع يحدد فيه المؤلف ملامح هذه السيرة وتمظهراتها العائلية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فالكاتب احمد الناجي استطاع ان ينتزع الكثير من الوقائع من أخاديد ذاكرة المعموري، ويفتض مغاليقها، وهو ينتشل صورها ودقائقها من زوايا النسيان, ولابد له ان يشرع في هذا الاتجاه من الطفولة التي انبنت تفاصيلها على تلمس الطريق إلى مدرسة كويرش الابتدائية، بوصفها الاختيار الأول, والخطوة التي يغاير فيها أترابه في ارتياد المعرفة, والاندراج في مضامير التعلم, حيث اقترنت رحلته تلك بالمخاوف والترقب، لكونها رحلة خارج المكان الذي ينتمي إليه المعموري، حيث تقع هذه المدرسة على الجانب الآخر من شط الحلة، إذ يلجأ إلى اتخاذ القارب الذي يديره بنفسه وسيلة بغية الوصول إليها كل صباح.
اعترافات وتدوينات
وعلى الرغم من المحذورات الاجتماعية التي انطبعت بها نواميس القرية وأعرافها، فإن للمعموري استذكارات وأفعالا تلخص جرأته ومواقفه من جدته لأمه, والتي يصفها بالقديسة (هيلة بنت خضير)، تلك المرأة التي كانت لديه بمنزلة معلمته الأولى، وهو يستشعر تأثيرها على سلوكه الفردي, وسلطانها الأبوي على وجدانه. فيما نجده لا يخشى البوح والاستفاضة عن موقفه المختلف من أبيه عندما انتبه إلى انتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي في سن مبكرة ما يضطره إلى طرده من إملاءات العائلة أو لجوئه الى الملاذات السرية بين أخواله ومريديه.
لقد أتاح المعموري للكاتب أحمد الناجي الحرية الكاملة لالتقاط المعلومات وتناول سيرته بكل وضوح وهو كما يقول (إني لا أخشى من التاريخ) ص 35 لكونه يريد لهذه السيرة ان تبقى حقيقية ومألوفة بين الناس، وكانها جاءت بمثابة اعترافا ت وتدوينات مكتوبة بضمير الـ (هو) وليست استجوابات هروبية ينمذجها تشظي الأحداث، وانطفاؤها بتقادم الزمن، غير أن المعموري يستنفر حواسه ويصرح بأسماء الكثيرين ممن التقاهم في طفولته ويفاعته وشيخوخته كمعلمه مبدر السلامي، وهو يرسم ملامح تكوينه الثقافي منذ الصغر من خلال ترويضه وتشجيعه لاستقبال الحساسية الجديدة للدراسة، وكذلك قريبه ناظم البكري الذي يدفعه الى تلقي هذه الحساسية بحب وشغف، وهو يمنحه العديد من المراجع والإصدارات الجديدة.
المهمل والمكبوت
لقد استعاض المؤلف عن الأسئلة التي يمليها على الشخصية المسرودة ناجح المعموري وأجوبتها بالإيقاع السردي، ونموه عبر المرويات والإشارات الزمنية والارتداد الى نبضات الحكاية السردية، وتشاركها في نبش الذاكرة، واستحضار ما فيها من مهمل أو مكبوت, وقد استرسل في ترحيل أطياف الصبا والشباب في أكثر من عنوان إلى مرحلة النضج والاكتمال, بعد أن غادر عالم القرية، وأصبح يافعا يتلمس خطاه في أزقة المدينة, وهو عالم مغاير في عنفوانه وانفعالاته، عالم مسكون بالحركة, والارتباك اليومي، وان مسار هذه الرحلة الذي وجد المعموري نفسه في خضمها من قريته إلى المدينة, هو مسار اضطراري فرضته تقاليد التحصيل العلمي والتسليم المقلق لفجاءات الواقع الجديد، ولعل انبهار الفتى ناجح بهذا الواقع سرعان ما تبدد في فضاءات الحرية المشروطة وحب الاكتشاف وهو يلتقي مدير المدرسة عبد الحسين حبانة، ذلك التربوي الجاد في استقبال طلبته، حيث يحقق له الفرصة الملائمة لقطع طريق المدرسة البعيد على الدابة، وكذلك مصاحبته لأستاذ اللغة العربية المتميز سعدي علوش، الذي يدرك في تلميذه النابه موثبات الانفتاح, والنموذج المفتون بالاختلاف عن مجابليه في تلقي الخطاب الثقافي والانشداد النوعي إلى الممارسات اللاصفية بين حيطان المدرسة.
ونرى علوش قد وقع على ضالته في تلميذه، إذ ابتدأ بتحفيزه على قراءة روايات الهلال والقصص القصيرة العالمية وأدب نجيب محفوظ وبعض العنوانات المهمة التي تنمي موهبته والتأقلم مع الكتاب، وتوجيهه في الاستنجاد بأستاذه الذي لا يتوانى عن ترغيبه في التعلق بالقراءة والانصراف إلى معانقة الأجناس الأدبية المختلفة، حيث تشكل مدة الممارسات مفاتيح وعيه الثقافي، ورغبته الملحة على التجريب في كتابة القصة القصيرة بوصفها عتبه أولى يلج من خلالها إلى مضمار هذا الفن, وانتهاج المخفي والمكشوف في صناعته لقصته المبكرة (المكرود)، تلك القصة التي قادت ناجح بصراحتها وجرأتها إلى أبواب المحاكم أو الاحتكام إلى أعراف العشيرة، بعد ان تبدت لبطلها سيرورة القصة التي تتغير في رمزيتها احباطاته الشخصية.
المسارات الجديدة
لقد مرت هذه السيرة بتحولات وارتحالات دراماتيكية سريعة كان فيها المعموري باحثا عن الاستقرار والاستجابة التلقائية إلى متون الثقافات المتصارعة , حيث يلجأ إلى مغادرة يوميات الهوامش الرتيبة وتأكيد مساراته الجديدة، وخصوصيته في نقصي الأسطورة , و الحفر في أنساقها الغامضة ، إذ يعمد إلى الانتظام في دراسة الآثار واللغات السومرية بصورة أكاديمية في إحدى الجامعات العراقية وبالتالي فان هذه الدراسة قد غيرت الكثير من قناعاته الذاتية في قراءة تراثنا القديم، حيث استطاع أن يصدر العديد من المؤلفات في قراءته لملحمة كلكامش , والنبي موسى , وعشتار , وشجرة اللفاح , والأساطير البابلية ، وغيرها ، وكانت موضوعاتها أطروحات مغايرة لما دأب عليه الباحثان فراس السواح والطيب تيزيني .
لقد أراد الكاتب احمد الناجي في كتابه (ناجح المعموري الأسطورة وسحر الكلام) ، منح قارئه كشوفات تنبؤية وصورة واقعية عن المعموري بوصفه مفكرا وباحثا وإنسانا ، اختط بمداد قلبه سكك الدراية ، والبحث عن المسكوت عنه في الثقافة الإنسانية ، وجعل هذه السيرة الضاجة بمفرداتها ، ومهيمناتها الضاغطة ، رواية حية لمستقبل محتشد بالأحلام والآمال والمصائر .