همسة وائل
شهد المجتمع العراقي في العقود الأخيرة تحولات ثقافية عميقة بفعل التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن التحول الأكثر تأثيرًا جاء مع تطور التكنولوجيا ودخول الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بقوة إلى حياة العراقيين. هذه الأدوات التقنية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، وأثرت بشكل جذري على العادات، والقيم، والهوية الثقافية.
في هذا المقال، سنتناول هذه التحولات، متسائلين عما إذا كانت التكنولوجيا قد مثلت فرصة لتعزيز الثقافة العراقية أم أنها أسهمت في تآكلها.
مصادرٌ متنوعة
لم يكن العراق بمعزل عن الثورة الرقمية التي اجتاحت العالم في بداية القرن الحادي والعشرين. مع انتشار الهواتف الذكية وخدمات الإنترنت، وجد العراقيون أنفسهم أمام فضاء واسع من المعلومات والتواصل لم يكن متاحًا لهم في السابق. هذا التحول أتاح فرصًا كبيرة للأفراد للوصول إلى مصادر متنوعة من المعرفة والتفاعل مع ثقافات أخرى. على سبيل المثال، أصبح من السهل الآن الاطلاع على الكتب والمقالات والأبحاث بنقرة زر، ما ساعد الكثيرين على توسيع آفاقهم الثقافية وتطوير مهاراتهم الشخصية. كما وفرت المنصات الإلكترونية مثل “يوتيوب” و”تويتر” مساحة لعرض الإبداع الفني، والأدبي، والموسيقي العراقي على مستوى عالمي، ما ساهم في إعادة تعريف العراق كدولة غنية بتراثها الثقافي.
جيل انعزالي
لكن هذه التحولات الإيجابية رافقتها تحديات كبيرة، أبرزها تأثير العولمة الرقمية على الهوية الثقافية العراقية. مع الانفتاح الواسع على ثقافات أخرى، بدأت تظهر تغيرات ملحوظة في أنماط السلوك والعادات الاجتماعية، خاصة بين الشباب. أصبح الكثير من العراقيين يميلون إلى تبني عادات وقيم مستوردة من ثقافات غربية أو آسيوية، ما أثار مخاوف لدى البعض من فقدان التقاليد الأصيلة. على سبيل المثال، تحولت بعض الاحتفالات والمناسبات إلى أشكال مستنسخة من ثقافات أجنبية، وتراجع الاهتمام بالموروث الثقافي المحلي، مثل الأغاني الفلكلورية والملابس التقليدية.
إضافة إلى ذلك، أسهمت التكنولوجيا في خلق فجوة بين الأجيال في العراق. الجيل الأكبر الذي تربى في مجتمع يعتمد على التفاعل المباشر والعلاقات الاجتماعية القوية، يجد نفسه الآن غريبًا في عالم يهيمن عليه التواصل الرقمي. على الجانب الآخر، أصبح الجيل الأصغر أكثر انعزالًا، حيث يقضي ساعات طوالاً أمام الشاشات بدلًا من المشاركة في الأنشطة الاجتماعية التقليدية. هذا التحول أثر على الروابط العائلية والمجتمعية، وأضعف من أهمية القيم التقليدية التي كانت تشكل نسيج المجتمع العراقي.
لغة هجينة
جانب آخر لا يمكن إغفاله هو تأثير التكنولوجيا على اللغة والثقافة المحلية. مع هيمنة المحتوى الرقمي باللغة الإنجليزية، بدأ الكثير من العراقيين يستخدمون كلمات أجنبية في حديثهم اليومي، ما أدى إلى ظهور لغة هجينة تهدد نقاء اللغة العربية واللهجات العراقية المتعددة. هذا التغير اللغوي يعكس تحولًا أعمق في الهوية الثقافية، حيث يصبح الشباب أكثر انجذابًا للثقافة العالمية وأقل ارتباطًا بجذورهم.
مع ذلك، لا يمكننا إلقاء اللوم الكامل على التكنولوجيا؛ فهي أداة يمكن أن تكون ذات تأثير إيجابي إذا أُحسن استخدامها. على سبيل المثال، ظهرت مبادرات فردية وجماعية تهدف إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للحفاظ على التراث العراقي. هناك صفحات ومجموعات على “فيسبوك” و”إنستغرام” تُعنى بتوثيق التراث الشعبي، من الأغاني التقليدية إلى الحرف اليدوية. كما بدأ بعض المثقفين والفنانين في استخدام التكنولوجيا لإنتاج محتوى رقمي يعبر عن الهوية العراقية بشكل عصري، ما يثبت أن التكنولوجيا يمكن أن تكون وسيلة لتعزيز الثقافة بدلًا من إضعافها.
أسلوب مبتكر
لتحقيق هذا الهدف، يجب على الحكومة والمؤسسات الثقافية في العراق أن تلعب دورًا أكبر في توجيه هذا التحول التكنولوجي لصالح المجتمع. يمكن القيام بذلك من خلال دعم المشاريع الثقافية الرقمية، مثل إنشاء مكتبات إلكترونية تحوي كتبًا عن التاريخ والتراث العراقي، أو تنظيم مسابقات إبداعية على الإنترنت تشجع الشباب على إنتاج محتوى يعبر عن هويتهم الثقافية. فمن إيجابيات التكنولوجيا في تعزيز الثقافة لدينا مثال عن (مريم)، إذ أثارت قصتها جدلًا واسعًا عام 2023، حينما قررت ترك عملها التقليدي كمعلمة في مدرسة ابتدائية، لتصبح “صانعة محتوى” على منصة “تيك توك”. كانت مريم تستخدم منصتها لتقديم مقاطع تعليمية بأسلوب مرح ومبتكر، لكن ما جعل قصتها محط الأنظار هي الطريقة التي قوبلت بها من المجتمع المحلي. بينما لاقت تشجيعًا واسعًا من فئة الشباب الذين اعتبروا تجربتها نموذجًا إيجابيًا للاستفادة من التكنولوجيا. واجهت انتقادات لاذعة من الجيل الأكبر الذي رأى أن هذه الخطوة تمثل تخليًا عن المهنة التقليدية وقيم التعليم التي تعتبر رمزًا للثقافة العراقية.
صراع الأجيال
هذه القصة تسلط الضوء على إحدى أبرز التحولات الثقافية في العراق، وهي الصراع بين الأجيال حول دور التكنولوجيا في الحياة اليومية. بالنسبة للشباب، تعد المنصات الرقمية فرصة للتعبير عن الذات والانفتاح على العالم، بينما ينظر إليها البعض الآخر باعتبارها تهديدًا للقيم والمهن التقليدية.
في النهاية، يمكن القول إن التحولات الثقافية في العراق نتيجة التكنولوجيا تمثل سلاحًا ذا حدين. فمن ناحية، وفرت التكنولوجيا فرصًا غير مسبوقة للتعلم والتواصل والانفتاح على العالم. لكنها من ناحية أخرى، حملت معها تحديات تهدد الهوية الثقافية والتقاليد المحلية. يبقى الأمر متروكًا للمجتمع العراقي، أفرادًا ومؤسسات، ليقرروا كيف يمكنهم الاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز ثقافتهم بدلًا من السماح لها بأن تصبح أداة لتآكل هويتهم.