علي لفتة سعيد /
للموسيقى جذور عميقة.. ومن التباهي أن تكون جذورها سومرية خرجت من هذه الأرض التي تعددت مصادر حضارتها، ولم تكن الموسيقى مجرّد عزف، بل كانت أناشيد ووضع نوتات وعلاقات ونغمات، التي كانت من أسباب اختراع الآلات الموسيقية.. وهو الأمر الذي جعل الكثير من الباحثين والآثاريين، وهم يترجمون النصوص والرقم، أن تتع دد مصادر ثقافتهم وترجماتهم.. لذا اعتقد البعض أن السومريين هم أول من وضعوا النشيد الوطني، مستندين الى ما عثر عليه من رقيم طيني لشاعر في الألف الثالث ق.م.
فيما يرى آخرون أنها قصيدة في رثاء ملك سومري وليست نشيداً، وهو الأمر الذي يحمل جانبين مهمين: الأول أنه يدعو الى الفخر، كوننا أسلاف من بنوا الحضارة وأشاعوا العدل والفن والانتماء، وبين من يحاول أن يزور التاريخ بالتباهي والغلو ويعطي -أو يفسر أو يحيل- الأشياء الى غير حقيقتها، فما هي الحقيقة في ذلك؟
لقد نشرت مقالات وآراء عبر منصات التواصل الاجتماعي تناولها العديد من الأسماء والمثقفين على اعتبارها شيئاً كبيراً ومفخرة عليا، والكتابة تبدا بتساؤل عن النشيد الوطني السومري ونوتته: هل تعلم أن السومريين هم أول من دونوا النوتة الموسيقيَّة في الأرض وأول من اخترعوا الآلة الموسيقيَّة (القيثارة) وفرق الإنشاد، وأول نشيد وطني مكتشف في التاريخ كان سومرياً، نظمه أحد الشعراء السومريين في الألف الثالث قبل الميلاد، وما زالت إلى الآن آثارهم الفنية واللغوية حاضرة..؟ ثم تورد هذه الكتابات نص النشيد الذي هو قصيدة سومرية حقة.. تقول القصيدة:
“ياسومر! أيها البلد العظيم، يا أعظم بلد في العالم، لقد غمرتك الأضواء المستديمة
والناس في مشرق الأرض إلى مغربها
هم طوع شرائعك المقدسة
إن شرائعك سامية لايمكن إدراكها
وقلبك عميق لا يمكن سبر أغواره
الملك الذي تلدينه
يزين نفسه بالحلي الدائمة
والرب الذي تعبدينه
يضع التاج على الرأس
ربك هو رب عظيم”
وقد تبين أن من قالت بهذا هي البروفيسورة في الحضارة الآشورية في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة (آنا درافكورن كيلمر)، وقد قامت بترجمة العلامات إلى نوتات موسيقية.
القصيدة ليست نشيداً
الدكتور خزعل الماجدي، المختص بالآثار السومرية والتاريخ، يقول: “لاشك في أن السومريين هم أول من دوّن النوتة الموسيقية، وقد اعتمد السلّم الموسيقى السومري على أساس النظام الرياضي السومري الستيني الذي ربط بين النغمات ورموزها المسمارية بالآلهة وأعدادها الرمزية، وفق جدول يبين ذلك الربط في السلّم الموسيقي السباعي الذي يستوجب درجة إضافية ليكون ثمانياً من أجل إعادة التكرار، وهذه الدرجة الثامنة هي (الأوكتاف)، وتمثلها الإلهة عشتار بأشعاتها الثمان، حيث تسلسلها السادس في السلّم الموسيقي.” ويضيف: “وهذا يعني أن الموسيقى السومرية ذات مدى صوتي واسع مكوّن من أوكتافين وثلثي الأوكتاف.” ويرى أن “السلم الموسيقي السومري كان سباعياً، وهو نظام فلكي يناظر أيام الأسبوع، ورغم أن الإله إنكي كان هو إله الموسيقى، إلاّ أن إنانا -إلهة الحب والجمال- كانت هي المسيطرة على الموسيقى، ولها قصيدة شهيرة تقول فيها على لسان كاهنتها (أنا الوتر الأول.. أنا الوتر الأخير) وهذا يعكس اقترانها بالإله آن والإله الأخير معاً.”
الموسيقى والأقدار
وبحسب الماجدي، فإن السومريين يرون أن الآلهة تضع أقدار الناس في الموسيقى كما لو أن لكل إنسان مخلوق شفرةً موسيقية تتحكم بحياته وهي من صنع الآلهة، إذ تقول هذه الأبيات السومرية ما يشير الى ذلك:
“إضربي في البوق
واعزفي على الوتر
سأرى في ذلك الطريق
وأشاهد المشيئة المطلقة
إن إرادة الآلهة كتبت قدري
وشاهدتُ في عزفها حياتي القادمة”
وإذا تأملنا هذه الأبيات، كما يقول الباحث، وتأملنا الموت الجماعي في مقبرة أور مع القيثارات السومرية، فسيخطر في بالنا مباشرة أن الحياة تبدأ بالموسيقى وتنتهي بها، بل إن حياة الإنسان هي مقطوعة موسيقية تعزفها الآلهة. وهو ما يعني أن الشعب السومري كان يفكر بطريقة راقية قبل خمسة آلاف سنة، في حين أنها لم تخطر في بال أروع المبدعين في القرن الحادي والعشرين من جميع الأمم. وهذا بالضبط ما نريد قوله، وهو أن الموسيقى السومرية، بلا أدنى شكل، كانت متطورة تماماً.. ويضع الماجدي سؤالاً محرجاً: من أين نعثر على موسيقاها التي بددها الزمن في طياته؟ وعن القصيدة التي اعتبرها نشيداً وطنياً يقول الماجدي “إنها مجرد قصيدة مديح لبلاد سومر ألفها شاعرٌ سومريّ ما، ولكنها لم تغنّ كنشيدٍ وطني سومريّ ولم توضع لموسيقاها نوتة موسيقية كالتي أرفقتموها، وأظن أن هذه النوتة الموسيقية المرفقة هي نوتة موسيقية حورية وليست سومرية، ولا علاقة لها بالقصيدة السومرية..” ويعتقد أن “البروفيسورة آنا درافكورن كيلمر قامت بترجمة العلامات إلى نوتات موسيقية حديثة، ولكني واثق من أنها ليست نوتة موسيقية سومرية بل حورية، وهذه متأخرة عن السومريين بكثير.”
ابتكار وعقل
من جهته، يرى الباحث في الأساطير جاسم عاصي ما يراه الماجدي إذ يقول: “إن التأكيد على أن للسومريين نشيداً وطنياً، لم تثبته الحفريات والدراسات الكثيرة، فالنص الذي أُشير إليه على أنه نشيد وطني تغنى خلاله الشعب السومري بالوطن، وعكس صورة انتمائه إليه، هنا يمكن التأكيد على أن النص المذكور هو عبارة عن قصيدة تمجد الملك وتصف الحياة والعلاقات بين الآلهة وبقية الرعايا.” ويدعو عاصي الى مراجعة الديوان الشعري السومري ترجمة (قاسم الشواف) إذ تستوقفنا معظم القصائد ذات الجزالة اللغوية والرصانة في السبك الشعري. كما أن الشعر يعكس اهتمامات متعددة تهم الحياة والعلاقات بروح شعرية خالصة. ويعطي مثالاً على ذلك، حيث نرى في عنوان الجزء الأول صورة للغة الشعر العالية (أعطني.. أعطني ماء القلب)، وهذا وحده خطاب ذو احتواء واسع للمشاعر الإنسانية. ويرى عاصي أن “الشاعر السومري دأب على ملاحقة تطور الحياة وظهور حالات تؤثر سلباً عليها، كما كان موقف الشاعر زمن تخريب أرض سومر على يد العيلاميين، بقصيدة مطولة تحت عنوان (رثاء أُور). وقد كانت للآلهة والملوك الحصة المناسبة في فعل الشعراء، كما هي لوصف الطبيعة والرموز. ولعلنا نؤكد أن هذه القصيدة قيلت بحق الملك ومنجزه، وهو الملك(شيلكو).” وبحسب عاصي، فإن السومريين اهتموا باللغة الي تعرضت للدراسات مبكراً، فالحضارة السومرية تُعد أُولى الحضارات، كذلك بدراسة الأُصول الأُولى للحضارات من خلال البحث والتنقيب عن الأُسس التي بنيت وشُيدت عليها الحضارة السومرية.