محمد غازي الأخرس /
منذ سنوات نكرر الفكرة في مقالاتنا ومنشوراتنا دون كلل أو ملل، وما من شيء. أعني أبناء جيلي الخائبين، ولا أستثني نفسي. أشير إلى رفاقي المثقفين من الطينة التي نعرفها، المتذمرين الشكّائين، الناقمين من العالم وأنفسهم، الملتفتين من هنا إلى هناك، قائلين لأنفسهم: ثم ماذا؟ ألم نكن ننتظر سقوط الطغيان وتبدّل الأوضاع عقوداً لنلقي ما بجعبتنا من سهام؟ ألم نزعم أننا كنا نخبئ العواصف تحت أكتافنا المقدّسة، ونواري أعظم النيران تحت عيوننا نصف المغمضة؟
قلنا إن الدكتاتور منعنا من قول ما نريد، قصّ ألسنتنا فصمتنا. فما الذي فعلناه حين رحل؟ ماذا صنعنا بعد عشرين عاماً من تغيّر الأوضاع، سوى أننا زدنا عجزاً على عجز، وخابت آمالنا ونحن نرى خيارنا في الجاهلية خيارنا في الإسلام، وشرارنا هناك شرارنا هنا.
مزاح الخيبة
أتحدث عن الأعمّ الأغلب، تاركاً الاستثناء النادر لحصافتكم، فهو موجود في كلّ زمان ومكان. بل حتّى في أشدّ أيام الدكتاتورية عتمةً وخنقاً للأنفاس، قرأنا نصوصاً عظيمة، ورأينا مسرحيات لا تنسى، وتأملنا لوحات حفرت في وجداننا ما حفرت. نعم، لا نقصد الأقلّية التي نعرفها، إنما نعني الأغلبية التي لطالما ادخرت لنا الوعود وقالت: انتظروا تغيّر الأوضاع، وسوف نريكم العجب العجاب. ثم ها هو التاريخ ينقلب ظهراً لبطن، وما من فجر لاح أو طلع صباح.
لكن، هل إن جيل ما بعد 2003 هو الوحيد في خيبته؟ كلّا طبعاً، فلطالما خابت آمال أجيال وتلعثمت ألسنتها بعد أن أصبح بإمكانها القول. بعد ثورة 14 تموز جرى شيء مشابه، وبدت الخيبة تفرض مزاجها المر على من ادخروا الصواعق والأعاصير. وإذ حلّ الوعد، حل معه الصمت عجزاً عن اللحاق بالعصر، انزوى من انزوى وتمترس من تمترس خلف جدار يأسه، كما يعبّر الراحل عيسى مهدي الصقر في شهادة نادرة كتبها بمجلة (الآداب) اللبنانية، العدد 7 عام 1973. يقول معبراً عن خيبة أبناء جيله مما آلت اليه الأوضاع بعد عام واحد من الثورة المنتظرة، في 14 تموز 1958. إذ عادت القوى نفسها تفرض “سلطانها من جديد، ولم ينقض بعد عام واحد على مولد الثورة. وتوالت بعد ذلك الخيبات والإحباطات، وتلفتنا لنرى تلك الحلقة الكبيرة المتماسكة من الكتاب والشعراء تتمزق وتتمدد. هاجر الكثير إلى خارج الوطن وضمّت السجون عدداً كبيراً منهم. أمّا من بقي خارج السجن، فقد اختار منفاه في الداخل، تعذّبه مرارة الخيبة.” يضيف صاحب (الشاهدة والزنجي) أنّ أحلام جيله كانت كبيرة، لكنها “ساذجة”، إذ كانت “نظرة البعض منّا إلى الواقع يشوبها الكثير من الرومانسية. ربما كنا ضعاف القلب فلم نقو على احتمال عنف الصدمة ومرارتها فترنح عدد كبير منا وساد الصمت.”
وضع المنتحر
في العدد نفسه، يكتب فؤاد التكرلي أنه رغم أن التبدلات لم تكن جذرية كما كان متوقعاً أول أيّام التغيير، إلّا أن الحدث الكبير “نقل مواضعنا الفكرية والفنية نقلة أخلت بتوازننا بعض الوقت. لم يعد وارداً أن نتناول الواقع الذي لم يتغير بنفس التناول والأسلوب الذي مارسناه قبل الثورة.” هذا هو ما جرى آنذاك وما جرى بعد 2003، نفس المشاهد والتداعيات، “انكشف الستار عن مسرح واسع عظيم السعة تتقاطع فيه الطرق وتختلط، ثم تمتد إلى نهايات بعيدة لا تدركها الأبصار أحياناً، ثم أطلقت كلّ قوى هذا البلد وحفرت أعماقه لتعرض على الأنظار، وكان كل شيء هائل مذهل مخيف يتم وينجز.”
كان التغيير أعظم من سقف الإمكانيات المتاحة لاستيعابه، وكان يجب العثور على أساليب جديدة تناسب حجمه، “ولم يكن ذلك للأسف سهلاً لمن يشعر بحقيقة الأمر ويقدره، فخلت الساحة الأدبية من الأصوات الأصيلة عدة سنوات.” يقول هذا صاحب (الرجع البعيد) وكأن صوته صدى لما رأيناه، فنحن أيضاً عجزنا عن اللحاق بحجم التغيّرات، واتضح أن ما ادخرنا من وعود كان مجرد أحلام، بل ما أشبهنا بأولئك، الذين تطرق لهم القاص موسى كريدي في مقالة رائعة نشرها في مجلة (الكلمة) ع 102 ع 5 1970، وفسّر فيها خيبة جيل ما بعد 14 تموز بسبب “الظروف السياسية الشاذة التي توالت على العراق والشعور بانعدام النظافة في الوسط الأدبي.” لهذا آثر العديد منهم “الصمت، أو العزلة، أو المنفى الاختياري.”
كان وضع الواحد منهم “أشبه بوضع المنتحر الذي رفعه الإحساس العميق باللاشيئية والحنين للموت إلى الانتحار.” يستعيد صاحب (غرف نصف مضاءة) أسماء المعتزلين آنذاك، ابتداءً من عبد الملك نوري ونهاد التكرلي، مروراً بنجيب المانع وجيان ونازك، وانتهاءً بكاظم جواد والبريكان ومحمود عبد الوهاب.
صخب الأحلام
بيني وبينكم، جدحت الفكرة الآنفة في ذهني ونحن في الطريق إلى مهرجان الكميت بميسان. كنت أرهف السمع لرفيقي الرحلة الطويلة، الشاعرين وسام هاشم وكريم شغيدل. تذكرنا صخب أحلامنا قبل زلزال 2003. تذكرنا الشعراء الذين صمتوا فجأة، والذين فقدوا عقولهم. الذين اعتزلوا الحياة، وغابوا في المنافي الباردة، تذكرنا الذين تحولوا إلى سائقي شاحنات تلفهم طرقات لا يعرفونها. الذين عادوا بحثاً عن خدمات تقاعدية، أو الذين ماتوا حسرةً في الصقيع، ودفنوا في حدائق ثلجية لا يزورها أحد. الذين ضيعوا مخطوطاتهم في البارات والبيوت المنسية.
دعكم من الذين قالوا كثيراً أو قليلاً، وتعالوا إلى أولئك.. الذين ادخروا الوعود ولم ينجزوا منها شيئاً. هل عجزوا فعلاً عن قول ما أرادوا قوله؟ أم أنهم أوهموا أنفسهم وأوهمونا بأنه كان لديهم ما يقولون في الأساس!
لا أدري يا أصدقائي!