يوسف زيدان “البدلة البرتقالية” حكاية جوانتنامو الرهيبة

حربي محسن عبدالله/

جوانتنامو رواية للكاتب يوسف زيدان صدرت عن دار الشروق في القاهرة. وزيدان مفكر وروائي مصري مرموق حصل على درجة الأستاذية في الفلسفة وتاريخ العلوم، وصدر له أكثر من ستين كتاباً. وقد نالت روايته الأشهر “عزازيل” جوائز عالمية عدة ، منها جائزة البوكر العربية (2009) وجائزة أنوبي (2012) وجائزة بانيبال(2013).

شيخ صوفي

يأخذنا زيدان في الرواية التي بين يدينا إلى معسكر ومعتقل جوانتانموالذي اشتهر نزلاؤه بالبدلة البرتقالية التي يرتدونها. إنها حكاية شاب نوبي من أب سوداني وأم مصرية في العشرينات من عمره. ينشأ في بيئة ملتزمة دينياً ومحافظة باعتدال صوفي، هو الطابع الغالب على الكثير ممن هم من منبته وبيئته. ثمة شيخ صوفي يبقى حاضراً في وجدان هذا الشاب وتبقى كلماته أنيس الوحدة والوحشة التي سيمر بها هذا الحالم لاحقاً. يسحره الإعلام وضوء الشاشات الفضائية فيحلم أن يصبح مراسلاً لإحدى القنوات الخليجية، فيرحل إلى إحدى تلك الدول ليخضع إلى دورة مكثفة في التغطية الإعلامية ثم ليصبح مراسلاً مبتدئاً ويقذف في ساحات لا عهد له بتعقيداتها. رحلته الأولى كانت إلى بخارى حيث يلتقي بفتاة اسمها “مهيرة” شابة في مقتبل العمر وبراءة الصغار، يتزوجا ويعود بها إلى الدوحة حيث يعمل ويحصل لها على إقامة مؤقتة بكفالة عمله في تلك القناة.

لقاء بن لادن

ويتابع عمله الصحفي فترسله القناة التي يعمل فيها إلى الحدود الباكستانية الأفغانية في مهمة أخرى هي الأخيرة له، بعد أن يقع بيد من يبيعه إلى الأميركيين باعتباره مراسلاً التقى بأسامة بن لادن ولديه ما يدلي به من معلومات خطيرة عن شيخ التطرف. فيدخل في أتون صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل، ويقذف في رحلة عذاب تدوم سنوات. بدءاً بسجن قندهار حيث يعتقل مع مجموعة غير متجانسة من الجهاديين، فيهم الأفغاني والسعودي واليمني والبلوشي والعراقي والمصري، وينقلون بطائرة من محطة إلى أخرى حتى الوصول بسفينة إلى الجزيرة المعتقل، إلى جوانتنامو. هذه الرواية هي بوح السجين البريء، يحن إليه بعد أن أغواه الفناء فصار لشدة عذاباته يشتهي التلاشي. يخاطب نفسه قائلاً: “أحنُّ إلى البوح، فإغواء الفناء يملؤني الآن، ويميلني إليه، فأميل مضطراً من فرط الترنح..الهزّات التي تهدُّ أركاني، تسحقني ثم تبعثرني. لم يبقَ مني بعدما استطالت جلستي هذه، إلا اليسير من الحواس. فليس لي غير سمع يؤرقني بأنَّات المحيطين وشمٌّ يعوقه احتباس أنفاسي، وذاكرة لم تبقَ فيها إلا آيات الرحمن”.

في جوانتنامو

في ابتداء هذه الرحلة المريعة نحو معتقل جوانتنامو دسّوا في فمه وأفواه السجناء قطعة من زادٍ لدن؛ كي تسدّ البطن وتصدّ الجوع. ومنعوا عن جميع المعتقلين الماء، ليخفت نداء الطبيعة فلا يزعجوا السجانين بتلبيتها. بعد ذلك كمّموا الأفواه بشريط لاصق لا يمكن لمسه بالأصابع، وقيدوا الأطراف بإحكام يحول دون التحرك ويجعل التجوال حلماً. ثم وضعوا على الرؤوس أكياساً سود ليكتمل مشهد العماء في جوف ليلة طويلة الساعات. وبعد أن استطال السفر المريع كانت المحطة الأخيرة هي عتبة الجحيم الذي سيستمر أياماً وأشهر وسنوات ثقيلة. كان صاحبنا يحمل في صدره قرآنه الذي يحفظه كاملاً، وقد أصبح أنيسه في رحلته نحو المجهول. تصطخب في نفسه الظنون فيحدثها قائلاً: “أتراهم يطيرون بنا الآن إلى قلب المحيط، فيُطوّحوا بنا من الأعالي ونحن مصفّدين، فنكون قوتاً للأسماك الكبار والحيتان..لوتنقلب هذه الطائرة أو تنفجر بنا، فنصير في الهواء هباءً منثوراً. ساعتها سأعود إلى خالقي وأكون في زمرة الفائزين بروضات الجنّات، ولسوف تُلقي الزبانية عندئذ بهؤلاء الجند وقوّادهم في قعر الجحيم، فتشرب من عظامهم شجرةُ الزقّوم التي طلعها كرؤوس الشياطين. هذا جزاؤهم بما تحجّرتْ قلوبهم، واقترفت أيديهم”. مرّت الساعات كالأعوام العجاف.

زنازين انفرادية

يبدأ مشوار العذاب التالي للوصول في زنازين انفرادية موضوعة بطريقة تجعل من المستحيل أن يرى سجين ما صاحبه في الزنزانة التالية. “لا تلتفتْ، لا تتكلم، لا تتحرك” هي الكلمات التي يطنّ صداها في الأذن حتى أن سوء حظ أحد السجناء أنه عندما نظر ناحية السور، انهال عليه الحراس بالعصي فأخذ يتقلى تحت مطر الضربات حتى تكوّم حول أصفاده وهو يموء مثل قطة وليدة. لفظتها أمها بناحية قاحلة.

تنتهي المرحلة الأولى من العذاب والتحقيق المتكرر عن علاقته بالإرهاب وبمجموعة من الجهاديين الأوزبك، عندما كان في بخارى، أولئك الذين لم يلتق بهم أبداً. وهو يكرر مايقوله كل مرة بأنه ليس سوى شاب طموح يحلم بأن يكون مراسلاً صحفياً وليست له أية علاقة بالجهاد والتطرف والإرهاب. ثم يخرجونه من الحبس الانفرادي ويضعونه مع باقي المعتقلين. وهنا المسار الثاني للرواية الذي يطلعنا فيه الكاتب على الكيفية التي يفكر بها هؤلاء الجهاديون وطريقة تعاملهم مع بعضهم ومع السجانين ووجهات نظرهم المختلفة عن القضايا المختلفة وعن الآخر المختلف. يخترع السجناء طريقة للتحاور بينهم ويجعلون من الترتيل وسيلتهم لنقل أفكارهم فيرتلون مايريدون قوله على طريقة قارئ القرآن، لكي لا يفضح أمرهم لدى السجانين. وبهذه الطريقة يتعرفون على بعضهم. ويكتشفون طريقة للحرب على “الكفار” بأن يستخدموا الغائط يضعونه بالأكياس التي يلف فيها الطعام الذي يقدم لهم ويقذفون بها السجانين إذا أرادوا أمراً ما ولم يحصلوا عليه (كانوا يسمّون القذائف هذه “نابالم”).