محمد حياوي/
لم يدر بخلد مجموعة اللاعبين الشباب الأجانب الذين أسسوا برشلونه أواخر القرن الثامن عشر أنّهم يؤسسون لأمة أسطورية مهولة في عالم كرة القدم الساحر ويضعوا المقاطعة الكاتالونية الصغيرة على خارطة العالم ضمن سياق اجتماعي وثقافي محلي واضح، يحدوهم بذلك رجل الأحلام والأفكار العظيمة خوان غامبر، مؤسس النادي ومصدر الإلهام والقوّة الدافعة له على مدى أكثر من 25 عاما، كلاعب ومدرب ورئيس.
جاء غامبر السويسري الأصل إلى مدينة برشلونه في العام 1898 للعمل في المحاسبة، وكان يلعب كرة القدم مع مجموعة من أصدقائه على حدائق فندق بونانوفا مساءً، قبل أن ينشر اعلاناً في مجلة “لوس ديبورتيس” بحثاً عن لاعبين جدد لتشكيل أوّل فريق كرة قدم، فتقدّم عدد من اللاعبين الأجانب ليؤسسوا ما سمي فيما بعد بـ”جمعية برشلونه لكرة القدم” واختاروا رمز النبّالة الكاتالونيين شعاراً لها ليبقى حتّى يومنا هذا معتمداً مع بعض التعديلات الطفيفة التي أجريت عليه في مراحل مختلفة.
واجه النادي الفتي أزمة مالية خانقة في العام 1908 وكان عدد أعضائه 38 عضواً فقط، الأمر الذي أضطر غامبر إلى ابتكار وسائل جديدة لأبقاء النادي واقفاً على قدميه، فشجع النشاطات الاجتماعية وأدخل ألعاباً أخرى وفاتح عددا من المستثمرين السويسريين لبناء ملعب كبير، فعززت تلك الخطوات نمو عدد أعضاء النادي بعد أن وضع له نظاماً أساسياً ليتحوّل إلى ظاهرة جماهيرية تعتمد المهنية، وارتفع عدد الأعضاء بسرعة إلى 2973 في أقل من عشر سنوات توج بانضمام حارس المرمى الأسطوري ريكاردو زامورا.
وفي عقد الثلاثينات من القرن الماضي ترسخت قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في النادي أكثر فأكثر، على الرغم من محاربة الديكتاتوريات الإسبانية له، لكنّه كمؤسسة رياضية واجتماعية ظل ملتزماً بقضايا الناس والأفكار التقدمية، وفي بداية الحرب الأهلية واجهت الهيئة الإدارية للنادي محاولات مستميتة لمصادرة ملكيته بسبب عدم الاستقرار السياسي والأزمة المالية واغتيال رئيس النادي آنذاك جوسيب سونويل.
لكن صمود الهيئة الإدارية وتكاتف الأعضاء واللاعبين فوّت الفرصة على السلطات الديكتاتورية لتدمير النادي، وشهد عقد الخمسينات على الرغم من ذلك، أعمال بناء ملعب كامب نو الشهير الذي تم افتتاحه نهاية العام 1957 بسعة 93 ألف متفرج، الأمر الذي ألهب مشاعر الجمهور الكاتالوني وزاد من احتشاده خلف النادي وأرهب السلطات الاسبانية من تنامي موقعه في نفوس الجماهير العريضة.
وفي عقد الستينات شهد برشلونه زيادة لا هوادة فيها في عدد الأعضاء، بعد أن أستقبلت مقاطعة كاتالونيا المزيد من المهاجرين الأجانب، ليتحوّل إلى آلية مهمة لتحقيق تكامل واندماج تلك المجاميع الجديدة في المجتمع الكاتالوني.
وفي العام 1969 جرى انتخاب أوغيستو مونتال كوستا رئيساً للنادي، بالتزامن مع توقيع أسطور الكرة الهولندية يوهان كرويف للنادي، ليشهد برشلونه تطوراً هائلاً سواء على الصعيد الفني الذي توج بلقب بطولة أوروبا أم على الصعيد القومي بعد أن أطلق كوستا شعاره الخالد “برلشونه أكثر من مجرّد نادِ”، وفرض الرئيس الجديد المزيد من الأساليب الديمقراطية في الإدارة وأشراك الأعضاء واللاعبين باتخاذ القرارات والسعي لاستعادة الصفة الكاتالونية المحلية ومعارضة الأساليب المركزية التي كان ينتهجها اتحاد كرة القدم الأسباني، ونتيجة لنفوذ كوستا المتنامي تمكن النادي من استعادة شعاره القديم وألوانه التقليدية التي عُرف بها.
وفي العام 1988 تعاقد النادي مع يوهان كرويف كمدير فني هذه المرّة، فشكّل ما يُطلق عليه فريق الأحلام وأحرز بواسطتهم كأس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، بعد أن تمكن الفريق من تحقيق أربع بطولات متتالية في الدوري الأسباني، واشتهر في فترة التسعينات بأسلوب اللمسة الواحدة والهجوم الكاسح، وهو أسلوب ونمط مدرسة يوهان كرويف المعروفة.
كانت السنوات اللاحقة سنوات نجاح مذهل لبرشلونه، لا سيما بعد عقد اتفاق تعاون مع منظمة اليونيسيف ليلعب دوراً رائداً في تنمية قدرات الشباب في بلدان العالم الثالث وتوفير أكاديميات التدريب والمستلزمات الرياضية لهم.
ويعد نادي برشلونه فضلاً عن كونه ناديا لكرة القدم، ظاهرة سياسية واجتماعية وانسانية ملفتة، لا سيما التزامه بالحلم الكاتالوني الذي عانى لعقود من التهميش في ظل الديكتاتوريات الاسبانية المتعاقبة، ومنع التعاطي بلغته وثقافته الأصلية، واغتيل رئيسه جوسيب سونويل الذي كان أيضاً عضواً في البرلمان عن مقاطعة كاتالونيا، حتّى تحوّل النادي إلى رمز للمقاومة والدفاع عن الجمهورية والنضال من أجل كاتالونيا متعدّدة الثقافات تُدمج فيها الأعراق بطريقة عادلة ونزيهة.