آمنة عبد النبي /
لا أحد في الغربة يملك وصفاً بلاغياً لمذاق الافراح المُرّة حينما تتلفت داخل أرواحنا بحثاً عن كفوف أمهاتنا البعيدات وأدعيتهن التي تشبه الصحون الالكترونية اللاقطة لكلِّ ما أنجزناه بعيداً عن الاوطان.
في مدينة “اوسترسوند” الغافية بسحرها الخلاب ما بين تلول الثلج شمال مملكة السويد، أُجريت المسابقة الوطنية الكبرى التي خطف فيها العداء العراقي “مصطفى ماهر” ذهبية المركز الاول في مسافة 10 كم بجدارة، فأصبح مانشيتاً لجميع الصحف السويدية التي زيّنت واجهاتها الرئيسة بصورته محتفياً بقلادة المركز الذهبي مع ابتسامة الفوز، علماً أنَّه حاز في بطولة “بلودوم لوبيت” التي أجريت العام الماضي أيضاً في مقاطعةِ يمتلاند المركز الاول في مسافة 5 كم، وهو أيضاً صاحب الريكورد المتقدم لـ 3000 م في بطولة الموانع المائية قبل سنتين.
مجلة الشبكة العراقية حلت عليه ضيفة بعصرونية موصلية عابقة برائحة شاي أم الربيعين، لتتبادل معه أطراف الرحلة والبطولة:
الفرح المر
* لحظة نادرة طوّق فيها النجاح عنقك بالميدالية الذهبية، فغادرت عيناك نحو وطنك البعيد، بماذا شعرت؟
– حملتني تلك اللحظة على جناحين من دمع وابتسام، أحاسيس غريبة كأنّها الفرح المرّ الذي لا أحد يستطيع وصفه أكثر من الاحساس به، في الغربة تبقى الأفراح بلا مذاق، لأن لا أحد بإمكانه إقراضنا قلوب وكفوف أمهاتنا البعيدات وفرحتهن بما أنجزناه، صدقاً كانت لحظات عصية لا توصف لا سيما أنني كنت قد رسمت في مخيلتي فكرة إنهاء السباق بوقت محدد وفقاً لما توقعته ولكن تفاجأت بأنني قد ركضت أسرع من هذا التوقيت بكثير لدرجة أذهلت الجميع.
* الموصل جرح عراقي كبير، ما الذي كان يسند ذاكرتك الجريحة لدرجة تحول فيها كل هذا الوجع إلى بطولة ذهبية؟
– لأن أصل السلام الروحي والحياة المدنية والثقافية والرياضية وكل ما ينبض بالأمل كانت جذوره نابتة وبقوة في تربة أم الربيعين، وأنا ابن تلك البقعة وبذرة جوالة من خصبِ تلك الارض الطيبة، الحدباء الشامخة طوال حياتها كانت مركزاً ومحوراً للسلام والجمال والطبيعة الخلابة، لم تعرف أو تحترف يوماً معنى الموت والدموية والأفكار الإجرامية الدخيلة.
من الكمب للشهرة
* مدرجاتك التشجيعية خالية من دفء الاحبة، كيف كنت تستقوي وأنت محاط بكل هذا الصقيع الاسكندنافي؟
– بصراحة هذا السؤال هو الجزء الاصعب في معادلة البقاء على كفة العطاء رغم أنف الحزن والاغتراب لأنّه في كل سباق وتحدٍ كان يراودني ويحوطني من كل جانب هذا الشعور او لنقل الجزء المفقود من المشهد بأكمله لدرجة صرت أحول أمنياتي العميقة بوجود أهلي حولي إلى خيالات حقيقية ترسم ظلالهم في كل الامكنة.
* اندماج المواهب المغتربة في المُعسكرات التدريبية السويدية، كيف يتم بذلك الاحتراف وهل واجهت تمييزاً؟
– بطبيعة الحال كل البدايات في اوربا صعبة وصادمة لنا جميعاً لا سيما من ناحية قبول الواقع الجديد، إذ سكنت لسنوات في كمب اللاجئين الذي اختاروه لنا في مكان شبه مقطوع عن العالم، لا وجود هناك لمواصلات كثيرة ولا محال غذائية قريبة، اضيفي لذلك كله رحلة الانتظار وأثرها النفسي المر، كانت متعبة وقاسية يصعب عليّ وصفها، لا سيما مرحلة الاحباط الاول بعد حصولي في البداية على قرار الرفض، عانيت هنا بشكلٍ مضاعف إلى أن جاء قرار وزارة الهجرة مرة أخرى بمنحي حق الاقامة، هنا بدأت حياتي وبدأ مشواري مع الركض وصرت اتعرف على أناس جدد في مجال الرياضة وغيرها، فأصبح لديّ أصدقاء كثر وصرنا نتمرن معا، كان دافعاً هائلاً في التشجيع.
الطفولة منحتني الطموح
* ما زال مصطفى ماهر، يحقّق الإنجازات في البطولات السويدية من دون منافس عراقي، يسعدك هذا التفرد أم يحزنك؟
– السعادة شعور عظيم بالنسبة لي، لا لكونها ميدالية ومنجزاً وإنما لأن الفوز بنظري هو تحدٍ ضد الوقت وضد نفسي، بغض النظر عن باقي العدائين، لأنني في كل سباق كنت اتحدى نفسي على أن أكون أفضل من قبل، أما الوجه الآخر للشعور فقطعاً يحزنني بالتأكيد أنّه لا يوجد عدّاء عراقي آخر، لا سيما في نفس المدينة التي أسكنها، لكن اتمنى أن يكون بمرور الوقت عداء عراقي بجانبي، نتمرن معا ونتسابق معا، علماً أنّني اعتز وافتخر بكل عداء داخل اوربا أو في العراق وما زلت على تواصل مع أقراني الاحبة أمثال البطل العراقي المعروف العداء محمد حبانية صاحب الرقم القياسي في سباق 3000م.
* الشاب الذي نجا من نيران الحروب والمفخخات، تتصدر صورته اليوم واجهات الصحف السويدية، لمن تدين بالفضل؟
– قطعاً الفضل يرجع إلى الله أولاً ومن ثم إلى أخي الكبير أحمد الذي يعيش أيضاً في السويد بنفس المدينة، كان الشخص الاول الذي اكتشف موهبتي وشجّعني كثيراً في بداية الامر، عندما كنت امتنع عن الركض لأسباب نفسية، كان يقول لي إنّه من الممكن أن تصبح أسرع عداء في المدينة والمقاطعة ومن ثم حتى في كل البلاد ومن ثم حتى في كل العالم لأنّني أثق بك تماماً كما أثق بنفسي، كان لإسناده فضل كبير على تجاوز المحن، ومن ثم الفضل يعود بالتأكيد لوالديّ البعيدين، إذ كان لهما دورٌ كبيرٌ في تشجيعي، عندما اتكلم معهم بالهاتف، أضافة إلى هذا كله لا يمكنني نسيان الايام الجميلة والمرة التي عشناها كعائلة متوسطة الحال في العراق وتحت سقف الحرب والدمار، كنت استمد قوتي من تلك الطفولة التي نستطيع أن نقول إنها كانت قاسية كما هو حال أغلب الاطفال في العراق، تلك الطفولة منحتني الطموح وجعلتني أقاوم بمفردي اليوم لتحقيق حلمي بعيداً عن عائلتي وعن بلدي.
أمنيتي تمثيل المنتخب العراقي
* هدفك الذي تعمل عليه بتحدٍ في المُستقبل القريب، هل لنا معرفته؟
– الهدف كبير والطموح أكبر، لأن أمنيتي تمثيل المنتخب العراقي ورفع رأس بلادي عالياً، أنا حالياً بدأبٍ مستمر على التمرينات اليومية المكثفة التي سوف تؤهلني لتحقيق الحلم الذي رصدته للمستقبل القريب واتأمل جعله حقيقة يفخر بها أهلي، الا وهو أن أكون صاحب الرقم القياسي السويدي في مختلف المسافات الطويلة.
*لو خيّرت أن تركض بقلبك الموصلي باتجاهٍ ما، إلى أين ستتجه وبقوة؟
– سأركض بقلبي الموصلي إلى القمة دائماً وأبداً وأجعل النجاح العراقي حليفي بكل مكان ولن أرضى بغيره ومهما واجهتني من عقبات ومصاعب وانكسارات في تلك الرحلة الشاقة سأواجهها بقوة حتماً، لأنّني قبلت هذا التحدي ولولا الفشل في كل محاولة لما نجح أحد.