إياد السعيد
في منتصف التسعينيات، وعند اشتداد الضائقة الاقتصادية التي خنقت المواطن وجوّعت الشعب، وفي مناسبة اجتماعية، أحب أحد الظرفاء من الأصدقاء أن يستخدم أسلوب التهكم كنوع من تعرية النظام آنذاك فقال ما نصه: “تدرون خطية عدي مضيع بطاقته التموينية وحاير شلون يستلم حصة الشهر الجاي!!” فردّ عليه أحدهم: “هاي منيلك يمعود؟” أجاب: “هذه أمامي منشورة في جريدة بابل.. صدك حيرة خطية منين يحصل حصته بهيج ظرف والسوك نار!!” فما كان من أحد كبار السن البسطاء إلا أن يدخل في الحوار ليقول: “يابة إنت خايف عليه؟ باجر وداعتك يطلعوله غيرها!”
لم أتمالك نفسي من الضحك على هذه الإجابة الساذجة، وبهمس مضغوط جداً، فهربت من المجلس لأقصّ ذلك على أصدقائي وأبيّن الفرق بين التهكم الذكي وبين سذاجة وسطحية التفكير عند البعض. تذكرت الواقعة هذه وأنا أستمع إلى رئيس تحرير مجلة “الشبكة العراقية” سرمد الحسيني وهو يناقش معي مسألة التهكم الشعبي وتصريحات المسؤولين الخيالية في إنعاش الاقتصاد وإنجازاتهم وتحقيق أهداف ستراتيجية في مهامهم .
نقد للواقع
بعيداً عن التعريف الأكاديمي للنكتة السياسية، وكحصيلة لبعض الطروحات بشأنها، يمكن وصفها بأنها سلاح سلمي لا عنفي للناس المحرومين من حقوقهم في النقد والتعبير. ويختلف مضمونها وسردها وأسلوبها من بلد إلى آخر، لكن حصيلتها نقد الواقع السياسي في النتيجة.
يقول الفيلسوف الفرنسي “هنري برغسون” في سايكولوجية الضحك :”إن النكتة هي محاولة قهر القهر وهتاف الصامتين.” أضيف عليها من عندياتي تساؤلاً وهو: من أين تستمد النكتة السياسية مصادرها وأفكارها؟ ووجّهتُ هذا التساؤل لحسين – 57سنة-، المعروف بظرفه وسرعة بديهته فأجاب: “أية أزمة، سواء أكانت سياسية أم إدارية أم حتى فنية، لا يستطيع أن يُسمع صاحبها صوته، يضطر لأن يختلق أو يصنع نكتة خفيفة بكلمات ثقيلة بوقعها لكي تصل عبر التناقل لصاحب الأزمة، لذلك تدبّغت جلودهم، ونحتاج إلى أن نزيد الدوز- ويقصد الجرعة – فبدلاً من كل وقت ملعقة نعطيه ملعقتي حنظل.”
مزاج اجتماعي
فيما يقول أستاذ العلوم السياسية د.عبد الغني جاسم، الذي يعتمد التحليل النفسي والاجتماعي في طروحاته لأية ظاهرة، عن مدى تأثر السياسي او المسؤول بالنكتة التي يطلقها المجتمع عليه او ما يمثله من مسؤولية: “النكتة السياسية هي مقياس مهم للمزاج العام، بحيث تؤثر -بشكل كبير- على قرارات وخطط الحكومات، لكن في العراق، وفي ظل الحرية المتاحة بشكل واسع للفرد للتعبير عن رأيه، رغم التابوهات الخطيرة التي ترعب المواطن، فإنها لن تؤثر كثيراً لأنها أصبحت ظاهرة عامة استمرأها المسؤول الفاسد، بل أصبح هو أيضاً يتندّر بها ويضحك لها، في حين إنها انطلقت ضده لتنبيهه او محاربته، وهو يعرف أنها سلاح المسالم، ولن تؤذيه أو تثلم شرفه السياسي، ولا تقلل من قيمته، فقيمته مادية بحتة تحددها قيمة المبالغ التي يحصل عليها ورضا رئيس حزبه، ولأنه جاء بإرادة ممثلي الشعب بحصة قانونية معترف بها رسمياً “.
تطبيقاً للمقولة التي تؤكد أن الصورة بألف كلمة، فقد رصدنا العديد من النكات ذات الرسائل العميقة والذكية، منها الصورة أدناه التي تلخص رأي المواطن بفلسفة الحكومة في حل أزمة الكهرباء.. أحمد عبد الرضا، من الشباب الذين لهم منشورات تهكمية عديدة، استخدم الصورة مرات عديدة للتعبير عن رأيه، يعطي رأيه في ذلك ويقول: “وسائل التواصل الاجتماعي الآن أكثر تأثيراً وأكثر انتشاراً من الفضائيات التي لا يمكن لنا أن نتابع محتواها وما تعرضه، لأنها تعبر عن جهات معينة تمولها فقط، لذلك فإن أي برنامج تهكمي يكون غير موثوق للمشاهد، لأنه يهدف الى تشويه المنافس او الخصم في العملية السياسية، وقد وعى المواطن ذلك فأصبحت هذه البرامج نفسها مدعاة للسخرية والاستهزاء وستسقط أصحاب هذه الفضائيات.”
أما كريم سعيد – 64سنة- فيقول: “حين يكون تصريح المسؤول كذباً، أو لكسب الزمن، أو لغرض سياسي، وليس لمصلحة الشعب، فإن ردة الفعل في العراق تكون هجمة مرتدة من الضحك والسخرية مغلفة برسالة شديدة تمس شخصه وتبعث في المجتمع حالة من الارتياح النفسي رغم المعاناة، وهي ضرورية جداً لمحاربة العنف في عهد ديمقراطي، لكن يجب أن تكون مسموعة من قبل الجهات التي ينتقدها المواطن.”
أحد المتهكمين في الفيسبوك سألناه عمّا يدفعه لاختلاق أو نقل وتطوير النكتة فقال: “الذي يحفزني هو تصريح مسؤول حكومي او سياسي غير مقترن بفعل حقيقي على الأرض، ولاسيما الوعود التي يقطعها هؤلاءـ وهي تولد ميتة أصلاً، فلا قيمة للمسؤول المتحزب لأنه يرتبط بقرار رئيس حزبه ويعرف أن بقاءه لمدة محسوبة، بعدها يزاح بإشارة او بمكالمة هاتف.”
تكاد تشترك شعوب العالم تقريباً في خاصية إنتاج النكتة، وكلها تميل إلى الضحك والسخرية.
النكتة وتفاعل المجتمع
والمضحك في النكتة عند علماء الاجتماع هو الذي لا يخرج عن المفهوم الإنساني في الإثارة ولفت الانتباه، أي بما لا يتجاوز مشاعر وأحاسيس الناس، ولا يتعرض لدخائل الأشخاص والأسر، ولا يمس كرامتهم وإنسانيتهم، وبذلك تكون النكتة وتهكمها مقبولين بل ومنتجين، لكن إذا تجاوزت العرف والتقاليد الاجتماعية فهي تقتل نفسها بنفسها لأن شرائح عديدة من المجتمع ستهجرها ولا تلتفت إليها، وهذا ما حدث فعلاً للعديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية لأنها أصبحت تهريجاً وطفحت بالشتائم والفضائح بلا أدلّة يمكن أن يقدمها البرنامج لكي يحقق فيها القضاء.