آمنة عبد النبي/
رجل البروليتاريا المقدسة، والغائب الذي رأى الغد، فجأة يعاود الظهور ميثولوجياً بكوفيته الشرقية على لسان الرئيس جو بايدن ليدوخ به العالم، ترى ما سرّ إعادة إنتاج الفكرة المهدوية بتوابل أمريكية مستقاة هذه المرة من تأويل النص الديني، لا مصاغاً على عجل وخفة وشائعات مخابراتية قد تصبح مع الزمن مسلمات لسبب نفسي، وهل حقاً أن التهيؤ لمحاربته بقيم مقدسة لم يعد شبهة او مناورة جيوسياسية كما شخصها سابقاً المفكر الفذ (محمد محمد صادق الصدر) في ضوء التحولات الفكرية والثقافية وبواعث التغيرات السياسية التي أنتجتها حروب الأمريكان وترسانتهم المتمركزة في المنطقة، ولماذا قدمت مطابخ السينما الأمريكية وورش البنتاغون البحثية -على مر العقود الماضية- ظهور المهدي بأنه ظهور راديكالي منتقم؟ علماً أن فكرة المنقذ كونية المعيار وتحقق انفعالا وجدانياً عند كافة الديانات.
لكل رئيس عرّافة!
“يجد الإنسان نفسه في مواجهة قاسية مع مسألة المعنى العبثي والتيه الحداثوي لأنه –فطرياً- لا يستطيع إلا أن يتمركز حول مقدّس ما.” كما يعتقد الفيلسوف الالماني (رودولف أوتو) حتى وإن لم يبدُ للإنسان أنه يختبر تجربة الانتشاء بالمقدَّس عن طريق الانخراط بأنشطة حياتية لا تبدو ظاهرياً وكأنها مقدّسة، لكنها حتماً سوف تحقق له انفعالاً وجدانياً.
مثلاً، كان للرئيس الأمريكي ريغان منجِّم خاص يستعين به في اتخاذ قراراته السياسية، أما الرئيس الفرنسي ميتران فقد عرف بمشاورته المستمرة للعرّافة (إليزابيث تيسييه) قبل اتخاذه أية قرارات سياسية، في حين أن الرئيس بوش الابن لم يحسم قرار إسقاط النظام في العراق إلا بمساعدة رجال الكهنوت.
قد تبدو الفكرة طوباوية، لكن العلم أيضاً لا ينكر غير المادي، لذلك فإن فكرة الإمام الغائب ميتافيزيقياً لا تزال تقلق الفكر الإنساني الكوني، وآخر من صعق العالم بإعادة إنتاجها والتنبيه لما تضمره من مخيال مستقبلي هو الرئيس جو بايدن، الذي اعترف بأنه وظف بروفسوراً لمعرفة قضية الإمام الغائب (المهدي).. الصدمة أن التصريح صدر مؤخراً من أعلى سلطة عالمية، وخلال تهنئته للعالم الإسلامي بعيد الفطر، ما قد يثبت أن التهيؤ لمحاربته بقِيَم مقدسة لم يعد شبهةً او مناورة جيوسياسية فحسب، كما شخصها مفكر البروليتاريا الراحل محمد محمد صادق الصدر في ضوء التحولات الفكرية وبواعث التغيرات السياسية التي أنتجتها حروب الأمريكان وترسانتهم في المنطقة وصولاً لمجابهته، حيث أفرد لها الصدر، بعرفانيته، بحوثاً وموسوعاتٍ مؤكداً أنه لا ينقص الـ CIA إلا العثور على صورة للغائب لأن في البنتاغون تصطف أطنان من الأضابير والملفات المهدوية، وآلاف الأقراص الليزرية بكلِ ما يتعلق بنسله، فضلاً عن وجود شعبة سرية في وكالة المخابرات الأمريكية لمتابعته، وجرى تكليف مراكز البحوث الستراتيجية بإعداد دراسات عن الشخصية المهددة -بنظرهم- لمستقبل أمريكا في قادم السنوات.
من حطم تمثال الحرية
مطابخ السينما الأمريكية وورش البنتاغون، قدمت ثيمة سينمائية معجونة بآيديولوجيتها التي صورت ظهور المهدي بأنه ظهور انتقامي، فالمخلِّص –بنظرهم- أشبه بعنوان لإلهام فطري يدرك الناس من خلاله أن رعباً مستقبلياً قادماً، يوجب على حكوماتهم محاربته حتى لو كلف الأمر طي القارات، ففي ثمانينيات القرن الماضي أُنتج فيلم (الرجل الذي رأى الغد).. وهو فيلم تنبؤي شهير لطبيب فرنسي ومنجِّم عجوز يدعى (نوسترآداموس)، المُعجزة اليهودية، رغم اعتناقه المسيحية، عاش قبل مئات السنين وتنبأ بأمور مرعبة ستحدث أو أنها قد حدثت لاحقاً، منها التنبؤ الأشد رعباً بظهور شخص يرتدي الكوفية العربية والعقال ويقف بزيِّه العربي محاطاً بمساعديه داخل غرفة عسكرية، يأمر بإطلاق الصواريخ الخارقة باتجاه أمريكا ويحطم تمثال الحرية ويخلف في أوروبا دماراً وخراباً هائلين برمشة عين. الفيلم أظهر المنجم الفرنسي وهو يحذر ويضع خطاً زمنياً تاريخياً يسير في داخله ثلاثة رجال يحاولون السيطرة على العالم: الأول كان نابليون، والثاني هتلر، والثالث محارب من الشرق الأوسط يرتدي عمامة زرقاء يغرق العالم بحرب كارثية يهتز فيها تمثال الحرية ويتحطم في لحظة.
التوقعات التاريخية التي قدمها نوستراداموس مثيرة للاهتمام وترسم مخيالاً عقائدياً لا يمكن الاستهانة به، الفلم أمريكي أنتج في عام ١٩٨٤ وكان من تقديم الفنان العالمي (اورسون ويلز)، كذلك أنتج الفيلم وأخرجه (بول درين) لشبكة السبعة التلفزيونية الأسترالية.
نبش الفجوات الفكرية
تمييع الشعوب سلوكياً في ثقافة العولمة وانتاج الإنسان (الكوزموبوليتاني) بقيادة برجوازية تحركها عجلة المال وعمالقته لأنها تصنفهم تلقائياً كأرقام متقدمة اجتماعياً، بالطبع هنا سيواجه تنازعاً وصراعاً حضارياً كما يصفه (صاموئيل هنتنغتون) ولن تلتقي قطعاً عولمة رأسمال مع عالمية المهدوية التي تستند الى دور الفعل البشري بقيادة بروليتارية عادلة تحركها حاكمية القيمة، لا الآلة.
ولعل نبش الفجوات الفكرية الموجودة في تراث المسلمين والترميز لمتلازمة الظليمة والمخلص كانت مداخل مقنعة للتشكيك او ليّ عنق الاعتقاد المهدوي وتطويعه ثقافياً عن طريقِ عدد كبيرِ من المستشرقين الأوروبيين والأمريكان ممن حرصوا على تذويب سماوية الفكرة في ذاكرة الفرد الشرقي قبل الغربي، وليشكلوا سداً أمام انتشار المعارف المهدوية الحقيقية، إذ يقول المستشرق الانگليزي “دوايت رونلدسن” في كتابهِ (عقيدة الشيعة)
“الإخفاق الذي أصاب الحكومة الأموية في توطيد أركان العدل هو المنشأ لظهور فكرة المهدي”..
بالترادف مع ما جاء بكتاب (العقيدة والشريعة في الإسلام) للمستشرق المجري اليهودي الأصل (جولد تسهير) إذ يقول: “لا بد من تأسيس فكرة الآمال الصامتة لتهدئة روع الناس، ومن أجلى مظاهر فكرة الآمال الصامتة، مسألة المهدي”..
اما الباحثة الألمانية (فيرينا كليم) فقد كان لها كتاب بحثي مهم بعنوان (السفراء الأربعة للإمام الثاني عشر في الفترة التكوينية للشيعة الإثني عشريّة) تطرقت فيه إلى نشاطات السفراء الأربعة، وتفسير معنى النائب والسفير، واعتبرت أنه يعكس أمراً في فترة الغيبة الكبرى، وهو وقوع أزمة أو حدوث اضطراب. وفي ختامه أثارت الكاتبة أسئلة عدة عن الغيبة وأمدها، وهل أن الإمامة مستمرة دون انقطاع أو أن الإمام المهدي بن الحسن العسكري هو الأخير! ..
في حين ألفت الكاتبة الأمريكية (لندا وولبردج) كتاباً بعنوانِ (بدون نسيان الإمام) الذي تكررت إعادة طبعه لـ ١٢ مرة وترجم الى لغات عدة، منها اللغة التركية، إذ تقول فيه:
“إنّها لا تمتلك معلومات عن حياته، وما هو موجود فعلاً من معلومات غير مفهومة تماماً بالنسبة إليها.” وتشير إلى أن “بعض الباحثين قد شكك في ولادته.” لكنها عقبت على ذلك بقولها:
“إن المؤلفين الشيعة متفقون على ولادته وغيبته، وأنه سيظهر في اليوم الموعود”.
يقول السياسي ما لا يقصده!
من العاصمة الاسترالية سدني .. تداخل معنا الباحث في الشأن السياسي د.مؤيد بلاسم مُشيراً الى عقائدية اليسار ومغازلته المهدوية، بالقول:
“يعتنق الرئيس الأمريكي بايدن الديانة المسيحية بفرعها الكاثوليكي، بينما يعتنق نسبة كبيرة من الشعب الأمريكي المسيحية البروتستانتية. ولا تختلف المسيحية عن سائر الأديان الإبراهيمية بالإيمان بظهور مهدي منقذ في آخر الزمان يحارب جنود الشيطان فيقضي على الفساد ويقيم العدل، فهو في اليهودية مسيح وفي المسيحية عودة للمسيح وفي الإسلام المهدي منتظر، وأغلب الظن أن كلام بايدن عن المنتظر والإمام الغائب هو لمجاملة الجالية المسلمة في الولايات المتحدة ولكسبهم سياسياً، فالمعروف أن أغلب المسلمين في العالم الغربي يميلون الى القوى السياسية اليسارية التي تحمي التنوع العرقي والتعدد الثقافي والديني في العالم الغربي في مواجهة صعود اليمين المتطرف الذي كان يعتبر عهد دونالد ترامب هو العهد الذهبي له”.
أما د. وسام جبار، المختص بعلم الآثار، فاعتبر من جانبه أن “الموضوع مرتبط بالدعوة للديانة الإبراهيمية، لأن تصريح الرئيس الأمريكي بأنه عيّن بروفيسوراً يوضح له الدين الإسلامي، أعتقد أن الفكرة الأوسع هي إيصال رسالة تقارب مع دول ساخنة يغلب على سكانها الطائفة الشيعية لتهدأ.”
في حين وضع الكاتب الصحافي نوفل شاكر لمسته البعيدة عن جدلية العولمة والمهدوية قائلاً:
“أشعر انها مغازلة مهدوية لاستفزاز القطب الخليجي ليقترب أكثر، ولا أستبعد أنها زلة لسان سياسي، أو تندرج تحت مقولة (غالباً ما يقول السياسي ما لايقصده).”