إياد عطية /
بعد أقل من عام على اندلاعها لأول مرة، نهاية العام الفائت، تجددت الاحتجاجات في السليمانية، حيث خرج العشرات من الطلبة يطالبون بمنحة شهرية خصصت لهم وقطعت منذ سنوات بسبب انخفاض أسعار النفط. لكن الاحتجاجات هذه المرة تشي بمخاطر عديدة، ولاسيما أنها تأتي بعد أسابيع من إعلان نتائج الانتخابات، وقيام المحتجين بمهاجمة مقارّ لأحزاب فائزة، الأمر الذي يشكل انفصالاً ما بين هذه العملية الانتخابية وقناعات قطاعات شعبية واسعة تعاني الحرمان.
ومن المثير أن ينفجر غضب الطلبة في السليمانية، بسبب منحة شهرية أو لأسباب قطع الرواتب، في وقت تؤكد وزارة النفط أن “المبيعات من إقليم كردستان، التي هي خارج صادرات شركة تسويق النفط، المصدرة من قبل الإقليم بشكل مباشر، بلغت بحدود 77 مليون برميل نفط خلال النصف الأول من العام الحالي، مرجحة أن تكون إيراداتها بحدود 4 مليارات و800 مليون دولار، ومع تصاعد أسعار النفط تشير المعلومات إلى أن المبيعات اقتربت إلى عشرة مليارات دولار للعام الجاري.”
أجندات خارجية
وقد حمّل عضو حزب الاتحاد الوطني خوشناو محمد، الذي أحرق المحتجون مقر حزبه في السليمانية، وهتفوا ضد الفساد وغياب العدالة، حمّل جهات داخلية وخارجية -لم يسمها- باستغلال التظاهرات وتوجيهها لصالح أجنداتها، عاداً الخلافات مع بغداد بأنها السبب الرئيس، في ماوصفه، بالأزمة المالية.
لكن رئيسة برلمان اقليم كوردستان ريواز فائق سبق أن كشفت أن عائدات بيع نفط الإقليم تقترب من المليار دولار شهرياً، لكن ما يدخل الموازنة لا يشكل سوى ثلث الإيرادات، وفي الواقع فإن مسؤولي الإقليم ظلوا يحمّلون بغداد مسؤولية عدم تمكن الإقليم من الإيفاء بالتزاماته تجاه مواطنيه، لكن الصحفي العراقي محمد الصواف قال: لم يعد مواطنو الإقليم يقتنعون بهذه الرواية، وهم يدركون أن السلطات في الإقليم هي التي تتحصل على إيرادات نفط الإقليم ومعابره الحدودية وتدير جميع موارده، لهذا كانت هذه التظاهرات فرصة لينفجر الغضب المكبوت بركاناً بوجه الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم المتهمتان بالعجز عن ضبط منسوب الرشا والفساد والمحسوبية.
الموارد الكبيرة
المشهد في السليمانية قابل أن يتكرر في أربيل وبغداد وكل مدن العراق، حيث تواجه الدولة نتائج نظام المحاصصة، الذي أنتج بدوره سلطات فاسدة غير كفوءة وعاجزة عن أداء مسؤولياتها، ولم تتمكن، على الرغم من الموارد الكبيرة، من تحقيق العدالة الاجتماعية وامتصاص البطالة وتحقيق الحد الأدنى من الخدمات الإنسانية.
ومع التعتيم، الذي قوبل بانتقادات كوردية واسعة، على هذه التظاهرات، التي لم تحظَ بتغطية إعلامية، كالتي حظيت بها تظاهرات تشرين، تتبارى الأحزاب السياسية في كسب ود الإقليم وهي تبدأ مخاضاً جديداً لتشكيل الحكومة يلعب فيها الحزبان الرئيسان دوراً محورياً في حسم نتيجته.
ردود أفعال صادمة
وجاءت ردود الأفعال باردة من مختلف القيادات العراقية التي أكدت على حرية التظاهر مع الحفاظ على الممتلكات العامة وأهمية الاستجابة لحقوق المتظاهرين.
في هذا الصدد استغربت النائبة آلاء طالباني صمت المدونين تجاه ما وصفته بقمع التظاهرات في السليمانية، “الذين غردوا وكتبوا وتكلموا وثاروا أثناء تظاهرات بغداد وبقية المدن”.
وقالت: “لقد وضعتنا مطالبُ الشعبِ العراقي على المحكّ.. وفي الملماتِ والشدائدِ يظهر الصادقون والمخلصون ورجالُ الوطن الحقيقيون.”
كما انتقد مراد كوردستاني، مدير دراسات المستقبل، الازدواجية التي تعامل فيها ناشطو تشرين الذين حذروا من تخريب السليمانية الجميلة، وهم الذين ابتدعوا المبررات للدفاع عن حرائق المؤسسات الحكومية التي نفذتها عناصر محسوبة على المحتجين في تشرين، بينما يوجهون اللوم إلى متظاهري السليمانية الذين أحرقوا مقار الأحزاب الكوردستانية.
الهروب من الوطن
وتأتي تظاهرات السليمانية وأربيل ودهوك متزامنة مع هروب آلاف المواطنين من مدن البلاد والإقليم، ومحاولتهم العبور إلى أوروبا في مغامرة مميته، حيث الثلوج وحرس الحدود وعصابات الاتجار بالبشر تحيط برحلتهم نحو المجهول، بحثاً عن فرصة تؤمن لهم الحياة الكريمة وتحقق العدالة التي حان الوقت للتفكير بها جدياً في بغداد وأربيل وسائر مدن العراق.
إذ ليس من العدل أن يعاني العراقيون من ضنك العيش وغياب فرص العمل، وبلادهم تعوم على بحيرة نفط، لكنها تغرق في الفساد، الذي ما من أحد يمتلك الشجاعة لإيقافه، فالجميع يريد أن يشارك في لعبة النهب.
لن تكون أربيل، ولا بغداد، في مأمن من الانهيار، ومن ثورة الجياع، مالم تكفا عن خطاباتهما التي لا تغني من جوع أو يرتجى منها إصلاح حقيقي لواقع يحتاج إلى حلول فاعلة وجذرية، وتبدآن العمل بروحية هدفها خدمة العراقيين وضمان عيشهم الكريم.
ستصمت أصوات الاحتجاجات التي ولدت من رحم الغضب العراقي في الإقليم، كما صمتت في الناصرية، لكنها قد تنفجر في أي وقت مالم تجرِ معالجة حقيقية لأسبابها وأولها الفساد.
الصوت الوطني
لقد شخص رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح، آنذاك، أسباب تظاهرات تشرين، التي لا تختلف دوافعها كثيراً عن تظاهرات الإقليم، وخاطب المتظاهرين في بغداد والناصرية قائلاً: “أنتم أيها الشبابُ الأملُ والصحوةُ والضمير والصوتُ الوطني العالي الذي نؤكدُ عبره، ومن خلالِه، مجدَنا الوطني، ونواجه به التحديات ونكافحُ فسادَ المفسدين ونردّ كيد الأشرار.” مؤكداً “أن الحل يأتي باجتثاث الفساد والفاسدين وأن العنف لن يجدي في مواجهة غضب المحتجين.”
من جهته، دعا رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى موقف مسؤول تجاه التظاهرات في إقليم كوردستان، وكتب عبر “تويتر”: “الأحداث المؤلمة الأخيرة في إقليم كوردستان، ولاسيما في السليمانية العزيزة، تستدعي موقفاً مسؤولاً من الجميع؛ لحماية السلم الاجتماعي وإيقاف التدهور.”
وأضاف الكاظمي أن “التظاهرات السلمية حق مكفول دستورياً، والاعتداء على المتظاهرين، كما الاعتداء على الأملاك العامة أو الخاصة، أمران مرفوضان.”
معالجات حكومية
حكومة اقليم كوردستان التي فوجئت بهذه التظاهرات، إذ اتسعت رقعتها الى مناطق لم تظهر من قبل تمرداً على السلطة، وبعد محاولات لإيقاف التظاهرات، عقدت اجتماعاً برئاسة رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني، وبحضور قوباد طالباني، نائب رئيس الوزراء، وقررت تخصيص دعم مالي إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الإقليم لتحسين أوضاع الأقسام الداخلية للطلاب وأوضاعهم في الجامعات والمعاهد. وأقر الاجتماع باستخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين وأمر قوات مكافحة الشغب بوقفه، كما أدان حرق علم الإقليم في المظاهرات، وقد أسهمت هذه الإجراءات الفاعلة بتهدئة غضب المحتجين.
قنابل موقوته
وعلى الرغم من انشغال أجهزة اعلام الاقليم في الحديث عن مؤامرة خارجية لزعزعة استقراره، لكن المراقبين يدركون أن هذه الرسالة لم تعد تكفي لإقناع المجتمع بأن الخارج هو المسؤول عن معاناته التي تضعه أمام خيارات مريرة، كانت من بينها محاولات الهجرة العراقية الواسعة إلى أوروبا، أو كتم غضبه الذي يظل يغلي ويهدد بانفجار غير محسوب النتائج إن ظلت السلطات الاتحادية، أو سلطات الإقليم، بعيدتين عن هموم وتطلعات الناس، ومالم تعالج المشكلات من جذورها، وأن تضع الحكومتان حداً للفساد وغياب العدالة، وأن تجتهدا في فتح مجالات العمل الواسعة لامتصاص العاطلين الذين يشكلون قنابل موقوته يسهل تفجيرها بوجه الحكومات التي تتجاهل المشكلات الحقيقية لشعوبها.