مجلة الشبكة العراقية/
في رسالة تحمل أكثر من مضمون، أعلنت الكتلة الصدرية تجميد المفاوضات مع الكتل السياسية بشأن تأليف الحكومة، ومقاطعة جلسة مجلس النواب التي خصصت لانتخاب رئيس للجمهورية، ليبقى ملف تشكيل الحكومة ملغماً وطريقه مسدوداً.
وأصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارين مهمين، يفيد الأول:
“ينتخب مجلس النواب رئيساً للجمهورية من بين المرشحين لرئاسة الجمهورية بأغلبية ثلثي مجموع عدد أعضاء مجلس النواب الكلي، ويتحقق النصاب بحضور ثلثي مجموع عدد أعضاء مجلس النواب الكلي.”
ويتلخص الثاني بتجميد ترشيح هوشيار زيباري الى منصب رئاسة الجمهورية لحين البت في القضية المقامة ضده في ذات المحكمة.
وإذا كانت قرارات المحكمة، التي باتت تشارك في رسم قواعد جديدة لتشكيل الحكومة، وتضع العملية السياسية برمتها تحت تأثير قرارتها، وهي “قرارات ملزمة لا يمكن الطعن فيها”، قد منحت دوراً لمختلف الكتل في تشكيل الحكومات بحسب وزنها، وتعطيل تشكيلها أيضاً بحسب ذلك الوزن، في مشهد يكاد أن يقترب من النسخة اللبنانية، فإن الصدريين امتصوا صدمة تلك القرارات المفاجئة، التي عطلت مؤقتاً خططهم الرامية الى المضي بحكومة أغلبية، ليؤكدوا أنهم وحدهم من يمسكون بخيوط اللعبة ويقررون توجيه بوصلتها.
وفي الواقع، فإن الخلافات السياسية العميقة، بين القوى الشيعية خصوصاً، منحت دوراً مهماً للمحكمة الاتحادية، التي باتت قراراتها الولائية الملزمة توجه مسار عملية تشكيل الحكومة، لكنها تكبل بقيود حديدية أية محاولات جادة لتغيير قواعد اللعبة السياسية القائمة على التوافق العريض، وهي قرارات قد تحل عقدة آنية، لكنها تضيق مساحات التحرك خارج مسار مرسوم لا يمكن لأية قوة الإفلات منه والتغريد بعيداً عن السرب واشتراطاته.
مع ذلك، فإن الصدريين، ومعهم القوى السُنية والحزب الديمقراطي الكردستاني، مازالوا يشكلون الكفة الراجحة في ميزان معادلة فرضت عليها المحكمة مساراً جديداً يتطلب مشاركة واسعة لصنع القرار.
ويحاول التحالف الثلاثي أن يستثمر سيطرته على قرار رئاسة البرلمان لإعادة إنتاج صفقة جديدة تعيد رسم خطوط اللعبة، وتعالج الثغرات التي فتحتها قرارات المحكمة الاتحادية. وقد تمخض هذا الاستثمار عن إصدار رئيس البرلمان محمد الحلبوسي قراراً بالدعوة الى فتح ملف الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية مرة أخرى، في خطوة فهمت على أنها تتيح لحليفه البارتي تقديم مرشح بديل عن هوشيار زيباري بعد أن أوقفت المحكمة الاتحادية ترشيح زيباري لحين الفصل في الدعوى المقامة ضده في نفس المحكمة.
وهو قرار طعن فيه خصوم “التحالف الثلاثي”، وفي مقدمتهم “الإطار التنسيقي”، فيما عدته رئاسة مجلس النواب، التي يسيطر عليها “التحالف”، قانونياً نظراً لانتهاء المدة الدستورية المحدّدة لانتخاب رئيس الجمهورية، بموجب المادة (72/ ثانياً، ب) من الدستور دون انتخابه، واستناداً لأحكام قانون الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية رقم (8) لسنة 2012، لكن هذا القرار لن يمر من دون إمضاء آخر للمحكمة الاتحادية، التي اتخذت دور الراعي لهذه العملية المعقدة التي وصفت بأنها عملية “تكسير العظام”، بالنظر لوجود خلافات عميقة لم يجر التوصل الى ترشيدها، أبرزها أن الفائز في الانتخابات يرفض أن يتنازل عن حقه في ترشيح رئيس الحكومة ومشاركته مع الأطراف الأخرى، ناهيك عن خلافات جوهرية بين مشروع الصدر ومشروع قوى “الإطار التنسيقي” في مسائل تتعلق بالأمن والعلاقات الخارجية ودور الحشد، لا يمكن الوصول الى حلها من دون تقديم تنازلات.
وفي تعزيز للدور الكبير الذي تلعبه المحكمة الاتحادية العليا، فقد طلب رئيس الجمهورية برهم صالح من المحكمة التدخل مرة أخرى لتفسير المادة 72 من الدستور، لتمكينه من مواصلة عمله، ولتجنيب البلاد الدخول في فراغ رئاسي.
وأضاف أن هذا النص لم يعالج حالة عدم تمكن مجلس النواب من إنجاز المتطلب الدستوري الوارد في الفقرة ثانياً (انتخاب رئيس البلاد)، والتعامل مع الحالة في ما يتعلق بممارسة رئيس الجمهورية مهامه تجنباً لحدوث فراغ دستوري، ولحين استكمال متطلبات المادة 70 من الدستور.
مشهد يتعقد
كل هذه التداعيات، وأبرزها الدعوة ضد ترشيح زيباري لرئاسة الجمهورية اعتماداً على استجواب مجلس النواب، الذي سحب الثقة من زيباري عندما كان وزيراً للمالية في 2016، بسبب وجود اتهامات تتعلق بفساد مالي وإداري، إضافة إلى اتهامات أخرى “باستغلال النفوذ” عندما كان وزيراً للخارجية، عقدت المشهد وزادته غموضاً.
ويدرك السيد الصدر، الذي يدعم مرشح حليفه الديمقراطي الكردستاني، أنه ليس بالإمكان تجاهل الظروف التي تحيط بتمرير زيباري، وطلب بالفعل من كتلته عدم التصويت لزيباري مالم يستوف الشروط، وهي إشارة واضحة الى صعوبة مرور زيباري في ظل الخلافات العميقة التي تواجه عملية تشكيل الحكومة وتشكل قناعات شعبية لا يستهان بها وتحفظات قانونية ما زالت تحيط بمسألة ترشيحه، على الرغم من أن الديمقراطي الكردستاني أعلن أنه لن يقدم مرشحاً آخر غير زيباري، مراهناً على قدرة التحالف الثلاثي بتمرير زيباري.
خيوط اللعبة
قرار الصدر، بعدم حضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وتجميد مفاوضات تشكيل الحكومة، أكد أن الصدريين يمسكون بالقرار العراقي بقوة، وأن الفرص التي حصل عليها الإطار والاتحاد الوطني الكردستاني قد تخدمهم تكتيكياً، لكنها لن تكفي لفرض إرادتهم السياسية على إرادة الصدريين المستندين الى دعم الحلف الثلاثي، ولاسيما أن “الإطار التنسيقي” لديه تحفظات على رئيس الجمهورية برهم صالح الذي تضعف فرصه إزاء قوة “التحالف الثلاثي” الذي لايزال يملك القدرة على توجيه مسار عملية تشكيل الحكومة.
جبهتان دوليتان
وبينما تواجه عملية تشكيل الحكومة انسدادات حقيقية، فإن جبهتين حقيقيتين تتصارعان على خطوط متقابلة لا يمكن إغفال تأثير أي منهما على مسار عملية تشكيل الحكومة، وهي إيران في مقابل دول الخليج المتحالفة مع تركيا والمستندة الى دعم أميركي، وهو أمر دفع كلتا الجبهتين الى رمي كل أوراقهما، إذ لم تعد إيران تكتفي بتوجيه الرسائل عن بعد، بل دخلت بشكل جدي على خط المواجهة، عندما دفعت بقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، الى عقد اجتماع في النجف مع زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، وعلى أن القائد الإيراني لم ينجح في إقناع الصدر بمقترحاته التي تمثل رؤية إيران لشكل الحكومة العراقية المقبلة.
وإذا كان السيد الصدر مستنداً إلى تحالف قوي، يكفي لفرض رؤيته، فإنه لا يبدو مستعداً للتخلي عن دوره القيادي في تشكيل الحكومة التي تتبنى مشروعه، مع استعداد لمشاركة الآخرين بدور يتناسب مع حجومهم كقوى منفردة، لا تنازعه على قرار اختيار رئاسة الحكومة وتنفيذ برنامجها الإصلاحي.
مبادرة الإطار
وفي محاولة لا يعرف مدى تأثيرها وفاعليتها على فتح مسالك الانسداد السياسي الذي يواجه عملية تشكيل الحكومة، قدم “الإطار التنسيقي”، الذي تتهم بعض أطرافه تحالفاً إقليمياً، تقوده الإمارات وترعاه واشنطن بمحاولة الهيمنة على القرار العراقي بمساعدة أطراف داخلية، تسعى الى إعادة هيكلة الحشد الشعبي بذريعة إضعاف نفوذ طهران في العراق. وتوجه هذه الاتهامات بشكل مباشر من أطراف مقربة من “الإطار التنسيقي” الى رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، والى الحزب الديمقراطي الكردستاني.
وتستند مبادرة الإطار الى الدعوة لصياغة اتفاق الكتلة النيابية الأكثر عدداً على معايير اختيار رئيس وزراء قوي وكفء وحكيم وقادر على عبور المرحلة، ومواصفات تشكيل الكابينة الحكومية وفق معايير النزاهة والكفاءة لتكون أمينة على القرار السيادي الذي يحفظ أمن العراق واستقلاله، وتكون قادرة على اتخاذ القرارات الستراتيجية التي تنهض بواقع البلاد الخدمي، وبما يضمن إعادة الحياة لقطاعات الزراعة والصناعة ودعم المنتج الوطني والقطاع الخاص ومعالجة المحرومية، وبما يسهم في القضاء على شبح البطالة الذي يهدد فئات واسعة من الشباب والخريجين وأصحاب العوائل الفقيرة .
وإذا كان زعيم التيار الصدري لم يعلق على هذه المبادرة، ولم يصدر من كتلته ما يشي بالتعامل معها، ولاسيما أن المراقبين يعتقدون أن المبادرة لا تقدم جديداً يدفع التيار للتعامل معها، وهو الذي مازال ثابتاً على موقفه بتشكيل حكومة أغلبية وطنية، لا شرقية ولا غربية، رافضاً كل الاتهامات والضغوط التي توجه إليه والى خصومه.
ومع هذا، فمالم يحدث تغيير حقيقي، فإن الانسداد السياسي سوف يظل يفرض إيقاعه على أعسر عملية تشهدها البلاد لتشكيل الحكومة، فهي المرة الأولى التي ينقل الفرقاء حوارهم من الطاولات الى الشارع، إذ تشير التداعيات الأمنية في محافظة ميسان وتصاعد عمليات الاغتيال وسفك الدم العراقي، إلى أن الفرقاء السياسيين باتوا يلجأون الى اللعب بالدم والنار، وهو أمر خطير، لكن الرهان يظل راسخاً بقادة البلاد وحنكتهم التي تقدم مصلحة البلاد وأمنها على ما دونها من مكاسب مؤقته يمكن التعامل مع نتائجها وضبط إيقاعها.