جاسم عاصي/
تتميّز صورة الفنان (عادل قاسم) بحساسية شفافة، تنطبق تماماً مع تركيبته السيكولوجية، فمن فرط إحساسه بالألم والدهشة والرغبة، تنعكس مثل هذه القيم الذاتية الموضوعية على كادر صورته. فهو القريب من حيوات الوجود، وضمن بيئات مختلفة، نجده لا يفرّط بمشاهداته، وإنما تكون عين الكاميرا راصدة لسردياته الشفاهية، محوّلاً إياها إلى سرود الضوء والظِل، ثم الضوء والعتمة.
مؤكداً حساسية عدسته، في لملمة حواشي مشهده، مهتماً بزوايا اللقطة، حيث تبدو مؤطرة بكمال الرؤية، وصفاء التقنية والنظرة الانثربولوجية. فهو فنان معنيّ بالمكان، ومن فلسفته ينطلق لرسم مجالات حيواته، ولعل المأوى (المنزل) أخذ منه جُهداً متميّزاً، فقد أخبرني بأن ارشيفه الفني يحتوي على ما يقارب الـ (1000) صورة للأبواب. وهذا رصيد مهم ويتطلب مراقبته وفحصه. فمنذ أن اختار الإنسان الأول مأواه في الكهف، فقد اتخذ له مأوى، وحيث توفر الخطر الذي بدأ يداهمه، ابتكر الصخرة لسد فوهة الكهف. وهنا تأخذنا هذه الصخرة التي تحوّلت بتعاقب الأزمنة إلى عتبة للمأوى، صب الإنسان جُهده في صناعته وإضافة المتانة والجمال له. كما وتعددت وظائف العتبة، بسبب ارتباطها بالمنزل. فتقلب الأزمنة، ولّد نوعاً من الحذر، سقط على عتبة المأوى، أياً كانت وظيفته. والفنان اهتم بالعتبة التي ارتبطت بالبيت (المنزل)، فكشف عن طبيعة الأبواب، قصد الإشارة إلى غنى الداخل للبيت. فكما هي العتبة، يكون المبنى. من هذا المنطلق أكد الفنان على حث عين كاميرته لرصد الأبواب، ليس لجمالها فحسب، ولا كونها حامية لداخل المنزل، بل أنه اهتم كثيراً بما هي عليه العتبات هذه. مدوناً تاريخها، راصداً جمالية صنعها شغله تقادم الزمن عليها (الشيخوخة). مؤكداً اقتران الصناعة بالفكر الذي يتبع أسلوب الابتكار والتجدد وفق تطور المبنى ووظيفته. صحيح أن المنزل للإيواء، لكنه خضع للتفاوت الفئوي والطبقي، فالمباني في الأحياء الشعبية تكون أبوابها اعتيادية، تسد المدخل فقد، بينما في الأحياء المتطورة في رفاهيتها، تكون الصناعة داخلة في تشكلها. فسكانها يتباهون من خلال موقعهم الطبقي بأبوابهم، التي تُشير إلى رقي بنائهم. ووفق هذه النظرة في فحص أبواب الفنان (عادل قاسم) نرى أنه استطاع أن يلّم بمعظم الأشكال، لا لشيء يخص التفاوت الفئوي والطبقي الذي أشرنا إليه، بل أنه أكد على تاريخ الأبواب، عاكساً طبيعتها، وجريان الزمن عليها. فهو يتعامل مع الباب عبر نظرة انثروبولوجية، وسيسيولوجية،مرتقياً بفنه، سواء في طبيعة اللقطة التي يختار زاويتها، أو التأكيد على محمولات الباب من زخرفة ورقيات ذات صلة بالمقدس، والتي تشكّل مصدات وقاية نفسية للرائي، وتحوّط نفسي إزاء ما تشكله نظرة الآخر وفق العُرف الاجتماعي. بمعنى دفع الضرر المحدق بالبيت عبر عبارات مستلة من القرآن الكريم، أو عبارات قالها أصحاب الكرامات. فهو يتعامل مع الباب ضمن نظرته التي تؤنسن العتبة. فاتسعت رؤيته إزاء هذا الكيان الذي يقفل ذاته دون الداخل أو المحتوى.
بنية الخيال والرؤى
رؤية الفنان للعتبة تتميّز بإطارها الفلسفي، ذلك لأنه يضع هذه العتبة ضمن مقام جدلية إشارتها إلى المعنى أولاً، ونقصد به قيمة المكان التي تشكل الباب سمة أساسية له، وثانياً: باعتبار العتبة تشكل نوعاً من الصيانة المكانية، والصيانة الفكرية. وهنا يمزج المعنى بالإطار. أي يكون محتوى البيت متعلقا بقيمة الباب، في تظافر فكري جدلي. فكلاهما يكمل الآخر، وينوب عنه، خاصة الباب. فهو عنوان كل ما يتعلق بالداخل. من هذا تتشكل رؤية الفنان وهو يراقب الأبواب في كل حيّز مكاني واسع، ويقف عنده متأملاً. وهذا واضح من صياغات الصورة وقيمتها الجمالية ذات العنصر المثير جدلياً. فهو يحاور كاميرته، وتقوده بمثل ما يقودها متجولاً مختاراً مصمماً ومتأملاً وفاحصاً قبل أن تثيره زاوية اللقطة. إن ايحاءات الصورة بهذا الشأن عند الفنان، كما هي في صوره الأخرى، تتصل بالأشياء ضمن جدلية وجودها. لذا نجده ينحت في أسس اللقطة من اعتبارات توظيف الخيال. وخياله مصاغ من طبيعتين، سعة رؤيته، ودقة اهتمامه، ما يقوده إلى اختيارات مرّكزة وذات شأن يحرك ذائقة المتلقي البصري. فالباب لديه عنصر فاعل ودال ومحرك لبنى متعددة. واهتمامه آت من طبيعة رؤيته لحراكه الاجتماعي، وسعة تجربته في فن الفوتوغراف. فهو شاهد على بيوت بلا أبواب، وتمعن في كهوف البردي والقصب، وصورة المضايف في الريف والأهوار. لذا اكتسب رؤية مقارنته لمثل هذا الصُرح الذي يشكل عنصراً مهماً في البيت. المقارنة لديه تنبثق من صيرورة البيوت التي رآها بلا أبواب، لكنها ترفل بالأمان والدعة، مكتسبة ذلك من بدائية الحياة وبراءتها وعلاقتها بالحياة الأولى. كما وينظر إلى البيوت في المدن والحواضر التي تحكم محتواها بالأبواب، ثم تتفنن في اختياراتها للأبواب، ما أثار عنده نوعا من المقارنة، بين اللاأمان في المدن رغم وجود القانون الذي يحكمها، وبين ترف قاطنيها في اختياراتهم للأشكال ونوع الخشب والزخرفة. هذه النظرة هي من حدد مخيلته في تصوّر الأشياء، فنشطت عين كاميرته في رصد الأبواب التي واجهها، ما شكل لديه سيرة واسعة للأبواب. بمعنى أصبح في صيرورته الفنية ولع في رصد الأبواب وتصنيفها على مستويات متعددة.