محمد الـكحط /
لعلي يحق لي البوح بأنني تابعت المختار منذ خطواته الأولى نحو الإبداع، فقد عرفته منذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت بداياته تنبئ بمستقبل واعد، لحبه وولعه بالعود وأنامله التي تتحسسه وتداعبه كالأم التي تداعب طفلها ليغفو. كان شاباً آنذاك عندما عرفته لأول مرة حين غادر الوطن، تحدثنا عن الموسيقى وهموم الوطن التي لم تزل تحوم حولنا ونحن نعيش الغربة والمعاناة ذاتها، على الرغم من ترحالنا في مدن عدة وتجوالنا في محطات كثيرة.. مكرهين في أكثر الأحيان.
إنه الموسيقي وعازف العود أحمد مختار، تقرأ بطاقته أنه من مواليد بغداد عام 1969، درس في معهد الفنون الجميلة، قسم الموسيقى- آلة العود، وبعد رحلة طويلة حالفه الحظ ليكمل دراسة الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، ومن ثم حصل على دبلوم عالٍ في تقنيات الموسيقى العالمية من جامعة لندن للموسيقى، وبعدها حصل على شهادة الماجستير من مركز الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن عن آلة العود والموسيقى الشرق أوسطية، وعمل مدرساً في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية- جامعة لندن SOAS. وفي العام 2010 أسس في لندن «مدرسة تقاسيم للموسيقى» واستمر بالإشراف عليها مع مجموعة من الأساتذة حتى الآن، وذلك بالتعاون مع المركز الثقافي العربي البريطاني ومركز الدراسات والبحوث الموسيقية في لندن، كما كان يُعد ويقدم برنامجاً تلفزيونياً بعنوان “حديث العود” من الفضائية المستقلة التونسية، وذلك بين السنوات 2001 و 2006، وأشرف موسيقياً على احتفالية الموسيقار العراقي صالح الكويتي التي أُقيمت في العام 2008 في جامعة لندن، كذلك أعد وقدم من العام 2009 حتى بداية العام 2015 برنامجَ “عزف منفرد” من فضائية الفيحاء العراقية. كما قدم العديد من الأمسيات على آلة العود المنفرد في عدد كبير من العواصم العربية والأوروبية، ووضع موسيقى تصويرية لبعض الأفلام الوثائقية والبرامج الثقافية، وحصل من اتحاد الموسيقيين البريطانيين على جائزة أفضل عازف وأفضل عمل موسيقي غير غربي عام 1999. وصدرت له العديد من الأُسطوانات من مؤلفاته منها: «تجوال»، و«كلمات»، و«إيقاعات بغداد»، و«الطريق إلى بغداد»، و«أصابع بابلية»، و«رؤى من العراق».
أحمد مختار من أبناء المدرسة العراقية الحديثة في العزف، ومن المتأثرين بالموسيقار الراحل منير بشير، غادر العراق الذي نشأ فيه وتشبع من ثقافته، حيث استهواه العود وبدأ خطواته الأولى معه، متنقلاً بين عدة أساتذة يستذكر منهم (يونس كلو)، والأستاذ غانم حداد الذي يعد من أفضل الأساتذة. أسهم خلال وجوده بالمعهد في بغداد بعدة فعاليات موسيقية تميز فيها، فسافر إلى بولونيا سنة 1987 مع فرقة الموشحات للإسهام في مهرجان الموسيقى التقليدية، حيث كان جميل جرجيس قائد الفرقة.
بعدها، وللظروف غير الطبيعية اضطر إلى الانقطاع الإجباري عن مواصلة تطوره حتى سنحت له الظروف لمواصلة إبداعه، إذ كان قبوله في المعهد العالي للموسيقى في دمشق فرصة كبيرة استفاد منها كثيراً، حيث اطلع على المدارس الموسيقية الأخرى، وكان للأساتذة الأذربيجانيين دور مهم في اطلاعه على موضوع الانسجام والتآلف الصوتي بين عدة آلات موسيقية والتوزيع الموسيقي الأوركسترالي، لما تمتاز به هذه المدرسة من غنى وتطور في هذا المجال، وكان من أساتذته عارف عبد الله، وسليمان علي عسكر، في حين كان صلحي الوادي عميد المعهد آنذاك، أسهم خلال وجوده هناك في تقديم العديد من الأمسيات. يعترف أحمد أن هذه المحطة كانت مرحلة مهمة في إعداده وتطوره، إلى أن حط به المدار في لندن عاصمة الضباب.
حدثني عن تجربته هناك واختلافها عن محطاته السابقة، قائلاً: “هنا في أوروبا اختلفت البيئة، واختلفت التجربة، حتى النظرة إلى الحياة أصبحت بشكل أكثر عمقاً وأكثر وعياً، والنضج أكبر، حتى التمرين أصبح أقل جهداً من السابق، كما أن الحياة هنا منحتني حرية التفكير والتعبير، فقد أصبح عملي أكثر غنى، فأنت هنا مسؤول عن الخطأ وعن الصحيح، هذه الحرية المتاحة أسهمت في تكويني الحقيقي.”
وعن السر في تميزه عن الآخرين على الرغم من وجود العديد من عازفي العود، يجيب: “أنا أنظر الى الأشياء من الداخل، لا أنتهج المنهج التقليدي للموسيقى، بل أتبع نهجاً خاصاً مميزاً جديداً، كما أضيف للمنهج من خلال الاحتكاك والتعرف على التجارب والانفتاح على الثقافات الأخرى، حيث كانت لي فرصة الاطلاع على التجارب الموسيقية الإيرانية والتركية المصرية السورية ومن ثم الأوروبية، هذه الفرصة كونت لدي إضافات، فأنا أتمسك بأسس المدرسة الموسيقية، لكنني أعزف بشكل آخر ولا أقلد، فمشواري بدأ من صوت داخل حسن وعود جميل بشير ونغمات مقام الأوك في جبال كردستان، ومر بأصوات شجريان في إيران والقدود الحلبية وشاميات سوريا و لبنان، وامتد إلى القارة الأوروبية ليطوف بعدها في أربع قارات ليشمل أهم مدنها. مشوار بدأت نغماته في بغداد من مدينة الثورة ليصل إلى المسرح الوطني البريطاني، ودار الأوبرا في روما، ومعهد باريس، ومسرح اليونسكو، لذا كلما نظرت إلى الوراء أرى أن العمر لم يذهب سدى، وقد حدث فيه الكثير، ومازال لدي أكثر من ذلك. أنا مختلف ولست بديلاً لأحد، موسيقاي تبحث عن الأمان والسلام، وأدعو لهما في أعمالي، شعب العراق بكل أطيافه ثروتي الثقافية والموسيقية والعالم أيضا.”
كتب (مايكل جورج)، وهو أحد النقاد المتخصصين في صحيفة الإندبندنت البريطانية، ما يلي عن مختار: “لا يزال مختار يحافظ على تلك التصانيف والقوانين الموسيقية. قد يكون العود من أصعب الآلات الموسيقية عزفاً، لكن مختار العازف البارع يستخرج منه سحراً ويجعله يحلم ويعدو كفرس، أو يهدر كالرعد، حتى لحظات الصمت الفاصلة ضمن المقطوعة تصبح مؤثرة على يديه وكأنها تقول لنا شيئاً ما، يمتلك رشاقة بالأصابع ومرونة عالية في الريشة، والأهم هو أنه لم يحول العود إلى جيتار.”
الفنان أحمد مختار يمتلك مخزوناً كبيراً يحتاج إلى التأمل ليقدمه بأفضل صورة، فهو يستلهم أعماله من التراث الموسيقي العراقي الغني، أعماله تحاول تجسيد تراث العراق من شماله إلى جنوبه، ويحاول دائماً أن يطور قدراته وينمي إبداعه، وبخطوات رصينة، نأمل أن تكلل بالنجاح دائماً.