د. جواد صبري /
ضمن فعاليات “أيام مسرحية” التي انطلقت في بغداد بمناسبة اليوم العالمي للمسرح قُدمت مسرحية أمكنة اسماعيل على خشبة المسرح الوطني وهي من تأليف هوشنك وزيري وإخراج إبراهيم حنون، وقد جسّد أدوار العرض كلّ من الممثلين رائد محسن/ اسماعيل، وباسل شبيب/ الطبيب، وكاترين/ الممرضة وبعض أوهام اسماعيل..
في البدء كان النص
جاء سؤال الكاتب هوشنك وزيري في أمكنة اسماعيل والذي تضمن: اذا كانت لحظات الهروب من جريمة ما يصنعه العقل من سلوك عابث بكرامة ودم الإنسان هي ذاتها اللحظات التي يتخذ الإنسان من الجنون ملاذاً يعقل به السلام فأي حد يتبقى بين العقل وبين الجنون؟ بل أن الجنون يصبح أشد الأمكنة التي يسكن فيها السلام على الرغم من عبث المرء في جوانيات النفس التي تعاني الهروب من الموت الى الموت ومن ما يجرمه العقل في نظامه المريض الى ما يجرمه الجنون في عبثه المريض.
يريد هوشنك وزيري أن يروي سيرة الإنسان العراقي الذي لا يريد أن يكون ماكينة مجرمة في مصفوفة لحروب طاحنة لا قرار لها والذي بعقل عارف قد اتخذ قراره الأخير بأن يسكن بيت الجنون ويتمترس بذلك البيت عسى أن لا تتلطخ يداه بجريمة حرب.
اسماعيل ولد بعد أن اتخذ قراره بالدخول إلى الجنون. اتخذ ذلك بعد أربع وعشرين سنة من عمره وقد لعب دوره الجديد في عالم المجانين: مشفى وأطباء وممرضين ومجانين.. وبقي في هذه اللعبة حتى بدء الكشف عنها عبر منظومة النص/ العرض، وذلك بعد خمس عشرة سنة. لكن ما أثقل على اسماعيل بعد التمترس في حيوات الجنون أن ضاع اسمه وضاعت عنه زوجته وضاعت عنه الحدود التي تفصل ما بين العقل والجنون او بين الصدق والوهم..
وهم العرض وحقيقته
اقتطف المخرج ابراهيم حنون تلك الثيمة التي مرادها: انكسار الحد بين الحقيقة والوهم. بين العقل والجنون. بين الداخل والخارج.. في سلسلة من الثنائيات التي تتقلب فيها الأحداث عبر أضدادها لا لتأكيد العقل كنهاية ينتصر فيها اسماعيل ولا لتأكيد الجنون لتنتصر به رغبة الهروب من الحرب بل لتأكيد تلاشي الحد الفاصل بينهما، وتداخلهما في لحظة عرض مسرحي ينهرس فيها كل فعل او حدث بقهر يتيه فيه كل شيء، وما عاد يدري الإنسان أنه الى أي متجه يمضي: إلى العقل وجريمته في الحروب كنظام حيوات او الى الجنون كعبث في الذات.
ولهذا اعتمد المخرج في تشكيلاته الحركية والفكرية على:
• واقع خارجي يبدأ من واقع داخلي ثم يضيع بينهما ذلك الإنسان الرافض للحرب.
• عقل يرفض العقل ليسكن بيت الجنون وجنون يرفض الجنون لكونه يعقل ما يجري عليه.
• العوالم متداخلة كما هي التصورات الذهنية التي تتسرب أمام اسماعيل وهو يعاينها كملاذات آمنة بينما هي تطارده كصرخات مفزعة.
من هنا أيضا ولدت السينوغرافيا لتعبّر عن تلك الثيمات ولتؤطر أمكنة اسماعيل بأمكنة العرض المسرحي وكانت على نحو:
-أطر لأبواب مفتوحة استخدمها المخرج لتكون الشاهد الحي على ذلك التداخل ما بين الخارج والداخل. ما بين ما يجري من أحداث في الواقع وبصناعة وإرادة عقل.. بينما هي مثقلة بكل خطايا الحروب وآثامها. بين اسماعيل المجنون هنا في الداخل والذي لا يؤذي غيره واسماعيل هناك في الخارج الذي ينشطر الى عشرات منه ليؤذي غيره..
-حبال لمشنقة يتدلى عنها كل إثم ارتكبته البشرية جمعاء. وكأن الرمز اسماعيل في ميثالوجيا الذبح جاء تعبيراً عن كل تلك الخطايا التي تمارسها البشرية..
-السرير الكبير ذلك الولود بكل ما يتصوره اسماعيل من شخصيات مفجوعة بذاته المريضة والتي تطارده لا لتثقل عليه بمرضه الآثم بل تطارده لتؤكد له أمانه القادم من هروبه من كل عقل. هذا السرير الذي يريده أمناً له كان كابوساً عليه. هذا السرير الذي يريده بيتاً يدرك به زوجته ياسمين المفترضة كان مواجهة مع حطام نفسه الهاربة. كان خوفاً يتقيح فوقه كل ذات لقاء بالممرضة او بما يتوهم به أنها زوجته ياسمين المفترضة.
-الطريق او المقهى او الكراسي او الأقنعة المفزعة كلها ممرات واهمة يريدها اسماعيل لتكون شاهداً على مأساة الإنسان المجروح بالحروب وآثامها. بل يريدها أكذوبة طريق يشهد على مهزلة عقل توحش كثيراً وهو يقود نفسه الى متاهات الجحيم في حيوات من حروب.