(أنا مكبث) لـ منير راضي.. معالجة مشاكسة تخالف المعتاد

محسن إبراهيم /

في مسرحيته (أنا مكبث)، يقدم الكاتب والمخرج منير راضي رؤية جديدة لمسرح شكسبير، هذا المسرح الذي لطالما شكل جزءاً حيوياً من التاريخ المسرحي العراقي وذاكرته الخالدة بأعمال كبيرة رسخت في وجدان الجمهور وصناع الجمال على حد سواء.
فالمسرح العراقي يعد من أفضل المسارح التي تناولت مسرحيات هذا الكاتب العالمي, وقدمتها بطرق مبتكرة وبمفاهيم عصرية، بعيداً عن التقليدية, فالبيئة العراقية كانت بيئة خصبة لاستعارة الأعمال الشكسبيرية, والتجارب المسرحية كانت تبعث برسائل مشفرة من خلال تلك الأعمال التي تتحدث عن الاستبداد والتسلط، ولاسيما في ما مر به العراق من ظروف, لذلك تبقى أعمال شكسبير خالدة تتحدى الزمن وتعانق الخلود.
الكاتب والمخرج المسرحي منير راضي في كتابه الجديد (أنا مكبث) كان يرمي إلى هدف معين، ألا وهو استدعاء التاريخ، ليصنع لشكسبير محاكمة تدينه وتدين الحاضر بعامل جمالي، ليحقق النص مآربه ضمن مفاهيم معاصرة بتشكيلة شكسبيرية.
صياغة فنية
د.حيدر منعثر، المخرج المسرحي، تحدث عن (أنا مكبث) قائلاً:
الأدب الشكسبيري يبقى حاضراً في حياتنا المسرحية مهما طال الزمن، إنه نبع لا ينضب، ومن أراد أن يغرف منه سوف تحفّه المخاطر والمحاذير، لأنه بمثابة البحث والتنقيب في منجم متخم بالمجازفة والتوريط، إلا أنه ما زال مغرياً شهياً تصبو إليه الأقلام والأفكار والرؤى (كتابة)، ومن ثم ممارسات فعلية ومعالجات صورية على مذبح الخشبة (إخراجاً وسينوغرافيا وصوراً وتصوراً). قرأت (أنا ماكبث)، تلك المجازفة والمقاربة النصية للزميل منير راضي، فوجدتني فيها أتراقص ما بين نغمتين لإيقاعين مغايرين، مرة مع الأدب واللغة بصياغاتها الفنية (المنيرية)، التي شدت السباق واللحاق بلغة إشكالي كبير هو شكسبير، عبر معالجة لفكرة مشاكسة تخالف ماكبث المعتاد المتعارف لنا في خزانة ذاكرتنا، ليذهب إلى محاكمته درامياً بشكل فيه صنعة مسرحية لفنان مسرحي يعرف أسرار الخشبة، وعلى مستويين هما: الحكائي.. والفني. وقد تحقق في هذا المضمار جهد واضح وصل إلى حد المبالغة في الزخرفة البلاغية لصيغ الحوار وتنقلاته في الوصف والتعبير.. وصولاً إلى فخامة الحوار وتجلياته الممتزجة للإمساك بالبؤرة الأساسية، التي نسج الكاتب فيها وعليها نصه وفرضيته الأدبية. ويأخذني النص -مرة ثانية- إلى التراقص على نغم آخر.. تقودني إليه مساحة الابتكار وما يمكن أن يوفره هذا النص للمخرج، ولي كذلك. فوجود هذا الكم والنوع من الشخصيات الشكسبيرية الفخمة، تاريخاً وصنعة، ووضعها في بوتقة وسجال مغاير لما نعرفه عنها في محكمة درامية كنت أتمنى أن تجنح لغة الكاتب فيها إلى (عصرنة) الفضاء الافتراضي لها من ناحيتي اللغة والفرضية، وهو بذلك المحتوى سيمنحني شهية مفتوحة ومغرية في البحث وركوب مشاكسة مغايرة. (أنا مكبث) .. كتابة مجتهدة تستحق الوقوف عندها وفحصها بجدية، ودون محاباة سطحية، لو أردنا فعلاً أن نبارك للكاتب ونحثّه على مشاريع كتابة محترمة وفعالة.. نغذي بها فقر النص المسرحي العراقي، أو قلة حضوره في حياتنا المسرحية .
مغايرة الشك
” التاريخ شفرات ملغزة، التسليم بها يعني تعطل الفكر، وإذا تعطل الفكر مات الإنسان، وإذا تعطل النص المسرحي مات السؤال.”
هذا ما صرحت به الدكتورة سافرة ناجي، التي أضافت:
ولأن الإنسان شك متواتر لا يقبل بما هو صائر، بل السؤال هو لماذا صار؟ هذا الشك كان أزميل البحث في موقف شكسبير من الواقع، والدين, والسلطة, والإنسان، للبحث عن الحقيقة الضائعة ببن التاريخ وشعرية الدراما. أن تشفّر التاريخ ببواطن معناه أن تذهب باتجاه الماضي لتصوغ مفاهيم الحاضر وعلاقته بالتاريخ، وأنت بذلك تستعير معنى مقولة ابن خلدون “المنتصر يكتب التاريخ،” ولكن بصياغة درامية مغايرة، إذ تجعل من الفنان الشاعر معيار هذه المقولة ومضمونها بوصفه من وعاظ السلاطين الذين يصفهم الوردي بأنهم المحرفون الذين يصنعون الطغاة لتحقيق منفعتهم، إذ يجعلون الحق باطلاً والباطل حقاً، وهذه مشكلة مستفحلة في ثقافتنا العربية التي تصف الأبطال والجبناء بحسب معيار براغماتية السياسة، وكأن النص يقول بشكل موارب إن ليس فقط المؤرخ السياسي يحرف الحقائق وإنما هو المفكر الفنان، وهو فعل إدانة للمثقف.
(أنا مكبث) الذي يتقاسم به نواتنا، يثير الشك حول مدونات التاريخ، ومنها تراجيديات شكسبير الكبرى، وهو يستحضر نواتها في تصارع إرادات في قلب معادلة حضورها عبر موقف شكسبير منها، وصياغته لحضورها الإنساني، ليكون شكسبير خارج اللعبة الدرامية، وهو هنا يتناص مع طرد أوديب من طيبة لأنه أساء إلى النظام، وكذلك فعل شكسبير، سؤال الشك الذي نرمي به في فضاء التلقي الذي ينفتح على تساؤلات بحث في مدونات وشخصيات وأحداث التاريخ .
نص (أنا مكبث) مكتنز بالتشفير والمغايرة، وهو يغوص في إشكاليات اليوم عبر أيقونة مسرحية رسخت الكثير المثير من المفاهيم .