د.سلمان كيوش/
حدّثني الدوّاشةُ والحوشيّةُ، قالوا: في العشرينات من القرنِ الماضي، ينسلُّ جويسم بن كاظم الهليچي، ذو السبعةَ عشرَ عامًا أو يزيدُ، ليلًا على ظهرِ مشحوفٍ صغيرٍ جدا، من سَلَفٍ على «العْدِيل» يغفو وسطَ دخانِ مواقده الراكدِ باتجاهِ التهولِ الموحشةِ البعيدةِ لهورِ الدّبن وأم نعاج.
وما إن يسمعُ أوّلَ أنينٍ للبراهين حتى يتصنّمَ، يحبسُ أنفاسَه، ثم يطلقَ لحواسهِ ومجسّاتهِ المرهفةِ مهمةَ التقاطِ الأنينِ وتمثّلِه. يتركُ لأعضائهِ فرصةَ هضمهِ ليذوبَ في دمهِ النهمِ الظامئِ للحزنِ. وقالوا: الغريبُ أن طيورَ الخضيري والصلندة والبربش ودراويش علي والحذّاف لا تفزعُ من الآهِ الطويلةِ التي يزفرها وهو لائذٌ خلفَ القصبِ. آهٌ ملتاعةٌ تسيحُ لها دماؤنا المتجمّدةُ في ليالي الچلّة. كان يدعكُ ذراعيهِ ووجههِ ورأسهِ بالعنكر الغضِّ كي لا تشمَّ الطيورُ رائحتَه فتفزعُ. يطلقُ الآه ثمَّ يصمتُ بانتظارِ أن تردَّ نعيجات الماي بآه مثلها من الأكياسِ الجلديّةِ لمناقيرها الصفراء الضخمةِ. لا قدرةَ بنا على وصفِ «المْنابَه» بين جويسم ونعيج الماي، فهو شيءٌ يجلُّ عن الوصفِ ويسمو عليه. كلُّ ما نتذكّرُه هو أننا نجدُ صعوبةً في التنفسِ بعدَ اكتظاظِ صدورنا بما لا طاقةَ بنا لاحتمالِه من همٍّ.
حين سمعَ الشيخُ محمّد بن عريبي غناءَه أوّلَ مرّةٍ قالَ له:» چن المضيف تبربد عَلَيْ». وسمعَه الشيخُ جاسم بن محمّد العريبي فأصبحَ من أقربِ المقرّبين إليه. وعبرَ صيتُه الچحلةَ ليصلَ إلى المجرِ والعَدِل والواديّة، فكان يغنّي في المضايفِ هناك. يسمعُهُ المفجوعون والمترفون على حدٍّ سواءٍ فيحيلهم إلى كائناتٍ تتقنُ مهارةً واحدةً هي رفعُ الحجبِ عن الدمعِ ليفيضَ.
وقالَ لي أحدُ الحوشيّة وقد أمسكَ الدمعُ بتلابيبِ جفنيه:» جويسم لا يغنّي، جويسم ينعى. يمدُّ ساقيه كما تفعلُ النساءُ في الوقتِ المأزومِ، ويريحُ كفّيه عليهما. يُميلُ رأسَه يمينًا وشمالًا كما لو أنّه يريدُ التخلّصَ منه أو مما به من ضيمٍ. الشيءُ الذي لا أفهمه هو كيفَ يستطيعُ إِبكاءَ المنَعّمينَ المترَفين؟ كيفَ يستطيعُ إجبارَ النفوسِ المخمليّةِ على أن تشاركَه آهاتِه، فقد حرصَ الباشا نوري السعيد على استدعائِه إلى بغداد ليغنّي له، وهكذا فعلَ ابنُه المدلّل صباح؟ ما الذي يجده هؤلاءِ في صوتِه وغنائِه؟! هذا ما لا أعرفُه».
مواسم الهجرة
أيّها الموبوءُ بالحزنِ، أنتَ لم تفعلْ غيرَ السطوِ على حزنِ البَيّوضيّ في مواسمِ هجرتِه وعلى حزنِ الشطوطِ والمطرِ. صوتُكَ اختزالٌ لوطنٍ تُنبتُ أرضُه العنبوري مُدافًا بدمعِ رجالٍ أنصافِ عُراةٍ، يُدمون سيقانهم بالمناجلِ بفعلِ «الشَرَع». وتعرفُ أن خيطًا رفيعًا مما تحوكُه الحياةُ في إزارها أمتنُ من لوعتِكَ وغنائِكَ، ومع هذا تصدحُ في ليالي العمارة ونهاراتها:» اندهولنا النايم سرينا»، و»من يا قهر يرتاح كلبي». وتعرفُ أن الوقتَ بعدَ الغناءِ لا يشبهُ ما قبلَه لأنّ للجلدِ آذانًا تتحسّسُ خامةَ صوتِكَ المنحوتَةِ مما يلقيه الدفّانون من ترابٍ وهم يُلحدون الموتى. لذا يغمضُ مستمعوكَ أعينَهم ليبحّلقوا بما يعتملُ في أرواحهم من معنىً كئيبٍ يستحضرونه بانتشاءِ المتطلّعِ للمستقبلِ بحيادٍ لأنّه لا يجدُ ما سيخسره. في صوتِكَ يأسٌ لأنّه العارفُ الحصيفُ أن لا رجاءَ من الوجودِ ومن كلِّ شيءٍ مادامَ الموتُ سيّدَ الحقائقِ، وأنّ الترابَ هو مَآلُ الخدودِ والعيونِ الجميلة. كلُّ شيءٍ في مرمى غنائِكَ أو عتابِكَ، حتى اللهُ سبحانَه، فتقولُ له معاتبًا وقد شابَ عُربَ صوتِكَ نواحُ ملائكةٍ:» هلبت كسرنا خاطر الله».
وقار الحزن
أنتَ مَن يطلقُ الحزنَ من وقارِه ويحرّرُه من أسرِه لتعيدَ مستمعيكَ إلى طفولتهم، فتبكيهم بعدَ أن تُترعَ ذاكرتهم بصورهم وهم يملؤون حجورَ أمهاتهم ويتلقون دمعهنَّ المدرارَ المنسكبَ على وجوههم الطفوليّةِ وهنَّ يهدهدنهم ليناموا. فاستنسختَ تلوليهنَّ ونعيهنَّ ببراعةٍ ولوليتَ علينا ونحنُ كبارٌ ليعرفَ النومُ طريقَه إلى جفوننا. فكيفَ يمكنُ استقبالُ صوتِكَ بغيرِ الدمعِ وهو يُلجئنا إلى الغائرِ العميقِ من الوجعِ، فننشغُ ونناشغُ لصفعاتِ صوتِكَ على شغافِ قلوبنا؟
ما استمعتُ إليكَ إلّا وشعرتُ أنّي شفّافٌ وطيّبٌ ما دمتُ أستطيعُ استحضارَ شيوعِ الهمِّ الإنسانيِّ. يؤهّلُني صوتُكَ لأغدو واحدًا من الناسِ بلا حُجبٍ أو فواصلَ، ويعلّمني متعةَ الالتذاذِ بالحزنِ حين يكونُ بلا أسبابٍ واضحةٍ، فكأنّه يقولُ، من ضمنِ ما يقولُ، أنّ الحزنَ أصلٌ ويكتفي ما سواه بفرعيّةٍ زائفةٍ سرعانَ ما تندحرُ، فتنتعشُ روحي وترمحُ في حضرةِ الأصلِ بعدَ الترفّعِ عن الزيفِ. يعرفُ صوتُكَ كيفَ يُجبرُ خلاياي على الشهادةِ أن لا شيءَ يليقُ بي، وبغيري، غير حزني، ليس لأنّي أدمنتُه أو استعذبتُه، بل لأنّه فطرةٌ سبقتْ تشكّلي. صوتُكَ يستحثّنا، ببراعةِ الحرّيفِ، على استغلالِ اللحظةِ وتطويعها للبكاءِ الذي قد لا يتسنّى لي بعدَ حينِ وإنْ شاعَتْ أسبابُه وإنْ كثرَتْ.
الشررُ الوامضُ الذي تطلقُه عُربُ صوتِكَ وخامتُه لا يمكنُ أن يكونَ بهذه العذوبةِ إن لم يكن قد حسمَ أمرَه بينَ الحقِّ وما سواه، فاختارَ جمالَ اللهِ اختيارَ الناظرِ إليهِ على أنّه الجمالُ، الجمالُ فقط.
“حر الجيس”
روحُكَ حذرةٌ مستفزَّةٌ، وفي طوارئَ دائمةٍ، فهي على أعتابِ الحسرةِ والآهِ دائمًا، وعلى وشكِ الحزنِ أو أنّها غادرتْه للتوِ. هي «حِرّ الجيس» معه أو قابَ أَنّتينِ أو أدنى منه، فالقلقُ سيّدٌ لديكَ والانبهارُ عنوانٌ والدهشةُ نصيبُكَ الوافرٌ. ما إن تنتبهُ لواحدةٍ من خيباتنا الكثيرةِ حتى تطرقَ نحوَ الأرضِ ثم ترفعَ ناظريكَ نحوَ السماءِ، كأنّكَ على موعدٍ دائمٍ مع «نجومِ الظهرِ» واستشرافِ تخومِ الألمِ. تستطلعها، لا لتعدّها فقط، بل لتبحثَ بينها عن نغمةٍ أو كلمةٍ بعد أن استنفدتَ همَّ الأرضِ.
غناؤكَ يعرفُ كيفَ يهربُ بنا إلى العمقِ ويجبرنا عليه. لا أنصافَ حلولٍ لديكَ، فأمّا القتامةُ أو القتامةُ! لا تتجشّمُ عناءَ المفاضلةِ بين ما لديك، لأنّ شجنكَ هو كلُّ ما تملكُ. تعرفُ كيفَ تنصبُ لنا الفخاخَ بحبالِ صوتِكَ الشجيّ. ونعرفُ كيفَ نردُّ إليكَ جميلَ أسرنا واستلابنا بإزاحةِ الأقنعةِ الزائفةِ بدموعنا.
نمْ قريرَ العينِ أيُّها العرّابُ لكلِّ حزنٍ نبيلٍ..
بكى الحوشيّ حين أخبرني أن جويسم ماتَ في العمارةِ في قطاعِ 28. ماتَ في الخامسِ من شهرِ آب عامَ 1990. لم أجدْ معنىً لسؤالٍ تلجلجَ في صدري: كيفَ يمكنُ أن يكونَ غناؤه لو أنّه بيننا الآن؟!
توضيحات:
العْدِيل: نهرٌ يتفرّعُ من الكحلاء ويصبُّ في هور الچكّة.
الچِلّة: أبردُ أيامِ الشتاء.
المْنابَه: حوارٌ غنائيٌّ أو بكائيٌّ.
تبربد: تَهَدَّمَ.
الشَّرَع: مرضٌ جلديٌّ يصيبُ سيقانَ الفلاحين بسببِ مكوثِهم في الماءِ مُددًا طويلةً.