زياد جسام /
تقول بعض الدراسات الحديثة إنَّ الفنان اليوم أصبح قادراً على العيش من فنه، بعد أن كان الكثير من الفلاسفة القدماء يقولون إنّ الفن ليس فيه أي ربح مادي، إذ لم تكن تتوافر للفنان القنوات التي تمكنه من توصيل أعماله للناس كما اليوم، وأهمها الصالات التي تدعم الفنانين الشباب للبدء في مسيرتهم الفنية.
في العالم العربي يتمّ الاعتماد على بعض صالات العرض الخاصة، التي تقوم بدور كبير من أجل التشجيع على اقتناء الأعمال الفنية، الأمر الذي شجّع على بناء المتاحف الخاصة، في دول مثل قطر والامارات وبعض الدول العربية الأخرى، التي أصبحت محط أنظار للكثير من النقاد والمهتمين، بلدان استثمرت في بناء المتاحف الحديثة التي تهتم بالعروض العصرية والفنون المعاصرة، وما بعد الحداثة، وهذا يعد مؤشراً على النضج الفني. كما تشكل الأعمال الفنية المعاصرة الجديدة في السوق عاملاً في غاية الأهمية، فأغلب المقتنين اليوم يفضلون أعمالاً لم يكثر تداولها في السوق .
مزادات الفن
نحن كعراقيين الذين لنا الريادة في هذا المجال بالنسبة للمنطقة العربية، نسمع بين فترة وأخرى بأنَّ مزاداً عالمياً معيناً باع لوحة أو عملاً نحتياً يعود لفنان عراقي مهم، وهذا الفعل يدعونا للفخر كعراقيين بالتأكيد، ليس لارتفاع ثمن تلك الأعمال، بل لأنّ هذا العمل على الأقل حمل اسم فنان عراقي.
التشكيل العراقي شهد في الفترة ما بعد سقوط النظام السابق انفتاحاً كبيراً على العالم، سواء على صعيد حرية التعبير في إنتاج العمل أو انفتاح الفنان العراقي دولياً من خلال سهولة تنقله من بلد إلى اخر، أو التطور التكنولوجي الذي شهده العالم، وهذا غيّر مسار الفنان بشكل كبير من حيث سهولة الانتشار وغيرها من الأمور.
لو تأملنا الوسط التشكيلي داخل العراق تحديداً؛ فسنستطيع القول إنَّ ثقافة الاقتناء بدأت تتعافى ولو بشكل بطيء.. بعد أن اختفت تقريباً، ولم يعد هناك من يقتني الأعمال الفنية، لا كأفراد ولا حتى الجهات الرسمية، لا لغرض الاستمتاع بالأعمال الفنية ولا بهدف الاستثمار. فعلى سبيل المثال لو تجولنا في مؤسّسات الدولة كافة، مكاتب الوزارات أو القصور الرئاسية، المسارح، السفارات، الجامعات، الفنادق، محطات القطارات، المطارات وغيرها الكثير من الأماكن، لوجدناها خالية من أي عمل فني عراقي أصيل، والمقصود بالأصيل أي غير المطبوع أو المقلّد، وهذا بالتأكيد يشكّل نقطة سلبية تؤثر في الفنان العراقي كشخص منتج وعلى الثقافة العراقية عموماً.. فالفن اليوم بنظر المتخصّصين بات يحتل حيزاً مهماً في الثقافة العربية التي كانت تفتقر لذلك، والناس في العالم العربي بدأت تقتني الفن لتجعله جزءاً من حياتها، غير أنَّ هناك من يتّجه لاستثمار الأعمال والاستفادة منها مادياً.
إرثٌ ثقافي
فكرة الاقتناء للأعمال الفنية في العراق كانت من الأمور التي تثير الانتباه، ففي السابق كنّا نشاهد الأعمال الإبداعية العراقية تملأ المؤسسات وحتى الشوارع كـ “النصب”، إذ نجد عليها تواقيع الفنانين العراقيين المهمين أمثال جواد سليم، خالد الرحال، محمد غني حكمت، إسماعيل فتاح الترك، محمد مهر الدين، إسماعيل الشيخلي، وأسماء أخرى لروَّاد الفن التشكيلي، تُعد أعمال هؤلاء الفنانين اليوم ثروة وطنية .. وبعيدا عن مؤسسات الدولة، كانت هناك فئة كبيرة من المقتنين في العراق، يقتنون الأعمال الفنية منذ فترة طويلة ولم يكن أحد يعرف هذه المجموعات، وهي لم تكن تقتني الأعمال لغرض الاستثمار، ولكنَّها مجموعات تمتلك وعيا كافيا بشأن أهمية الاقتناء، منطلقين من فكرة أنَّ الفن إرث ثقافي تتوارثه الأجيال، وسيتحوَّل مع الوقت إلى كنوز فريدة.
لا شكَّ بأنَّ الإبداع الفني هو الأساس، والفكرة هي التي تجتذب المقتنين، سواء أكان العمل لوحة أو منحوتة، إلا أنَّ الفنان العراقي اليوم ينتظر دورا حكوميا لدعم قضيته لكي يتواصل إبداعه ونتاجاته.
تحقيق الهدف
الفنان لديه رغبة في توصيل تجربته ومشاركتها مع الآخرين، لذا فإنَّه دائم البحث عن سبيل لتحقيق هذا الهدف، فيبذل قصارى جهده لإيجاد وسيلة لعرض أعماله الفنية في العراق أو غيره من البلدان، ليس لأنَّه يرتاب في عدم اكتمال تجربته الفنية، التي تمثّل لديه قيمة تعبيرية وجمالية ونفسية، وإنّما من أجل استمرار دوران عجلة الإبداع العراقي في مجال التشكيل والحفاظ على ريادته ومكانته في العالم.
وبالرغم من عودة بعض العائلات العراقية لاقتناء الأعمال الفنية وإن كانت بنسبة ضئيلة، قياساً مع هذا الكم الكبير من الإنتاج الإبداعي العراقي، لكنَّنا ما زلنا نطالب الدوائر المعنية المتمثلة بدائرة الفنون التشكيلية ونقابة الفنانين العراقيين وجمعية التشكيليين بدراسة هذه المشكلة الكبيرة، من أجل دعم التشكيل العراقي ووضعه في نصابه الصحيح، أما الفنان فهو فرد يعيش عزلته الخاصة، همُّه الأول إنتاج تجربة فنية مهمة، تجربة ربما ستسهم في إثراء الفن التشكيلي العراقي وترسيخه كذائقة جمالية جماعية في المجتمع.