سامي نسيم /
هناك اشتراطات ومعايير للعروض الفنية في المهرجانات والأمسيات الموسيقية، وحتى المعارض التشكيلية والعروض المسرحية. لقد فقدنا تدريجياً ما استطاع أن يؤسس له الجيل التنويري الذي سبقنا، وما عادت بإمكاننا استعادة ثوابته لأسباب شتى، ومن العسير تقويم الأوضاع وإعادتها الى جادة صوابها وسط انفلات بالذائقة من تلقٍ وإصغاء وتأمل، ربما هي مسؤولية الفنان وصفوة المجتمع من متذوقين ومثقفين.
في الدول المتقدمة هناك أصول ومعايير رصينة، لكن يختلط لدينا كل شيء ولا نحصل بالتالي على قيمة عرض حقيقي تتحقق فيه كل الأهداف من المتعة والتطهر وغنى الذات، أظن أن الزمن يمضي والجميع دون حلول ولا يوجد اشتغال على ذلك، وهنا لابد من توضيح لفكرة أن للفنان دوراً وللمتلقي دوراً لا يقل شأناً عنه وإنما هو مكمل له، فإذا كان هناك خلل في أحد الأطراف لأسباب خارجة عن إرادتهما ومنها الجهل بالأصول والمعايير الأساسية لواجبات الوعي المسبق والإدراك، فإن حلقة التواصل تكون بهذه الحالة مفقودة. ومن ذلك يحدث أن يكون أحدهما في واد والثاني في واد آخر وجمعتهما صدفة زمنية ومكان وظروف فقط وليست حتمية ابداعية، وهذا من مبررات الضوضاء التي تحدث في الأحاديث الجانبية في كل العروض الموسيقية، فهو ضجيج تلقائي لجمهور لا يجيد الإصغاء وهو دور مهم مكمل للعمل الفني وقيمة عليا له.
ويحدث مثل هذا أن قاعات المعارض التشكيلية يكون فيها الاسترخاء والتأمل أكثر على عكس أن الحاسة السمعية غير مطلوبة في هذا الحال بل حاسة النظر، فهنا يمكن للجمهور الاستماع للموسيقى والتمتع بالمشاهدة على عكس جمهور الموسيقى الذي يتطلب منه حظر الكلام وإغماض العيون كون العملية سمعية وذهنية بحتة لكي تحصل الفائدة المرجوة والتفاعل الحقيقي. ويحدث أن العمل الموسيقي اذا كان جيداً لابد أن يكون له متلقٍ مدرك بمستواه من ناحية الإصغاء والتواصل مع مفرداته اللحنية، وطبعاً هنا الجمل اللحنية مثل الجمل الشعرية بعضها شعبي بسيط ومتلقيها نظير لها أو شعر فصيح عميق وواسع الجمل والبلاغة ومتلقيه نوعي ومختلف، وهذا أيضا في الموسيقى والغناء يعتمد الموضوع برمته على طول الجملة الموسيقية وإن اجتمعت المفردات الشعرية البليغة الفصحى واللحن الراقي تكون المسألة أعقد على المتلقي الشعبي البسيط، لذا فإن جمهور الموشحات والقصائد الكبيرة هو غير جمهور الطقطوقات وموسيقى المطابخ والمناسبات والأعراس والأهازيج، أي أن لكل مقام مقال. لذلك هناك مراحل تطورت فيها الذائقة السمعية وأفرزت معايير وأصولاً للعروض الفنية الرصينة، كان للفنان والمتلقي دور في إرساء تقاليدها. وهنا لابد من دور للجميع من مؤسسات وأفراد وجمعيات ثقافية أن تسعى لترسيخ ثوابت وأصول للعروض الفنية وحسب ما هو متعارف عليه عالميا وليس الاكتفاء بالرؤية المحلية التقليدية التي ستكرر نفسها مرات دون تطوير لمفرداتها. بعض المتخصصين بالسياحة والثقافة يدركون هذه التقاليد علاوة على من لمسها بالاطلاع من خلال السفر للخارج وكثرة المشاهدات للحفلات الفنية الموسيقية الرصينة، حيث أرست التجارب المتقدمة للبلدان المتحضرة مثل هذا النهج واعتبرته طقساً ومناخاً روحيا فيه الكثير من دلالات المدنية والحضارة للشعوب، ومن ذلك عروض دور الأوبرا وموسيقى الحجرة والصالات الثقافية، ولو راجعنا اكثر الفعاليات الثقافية والفنية المحلية لوجدنا خللاً واضحاً وغير صحي ومن ذلك مهرجانات الشعر مثل مهرجان المربد وكيف يلقي الشاعر قصيدة وسط ضجيج أشبه بسوق عكاظ، وكذلك العروض الموسيقية في قاعتي الرباط والمسرح الوطني، لو اطلع عليها أي متلقٍ لأدرك أن لا ثوابت وقيماً للعروض لدينا ومنه فتح باب القاعة والانارة وغيرها أثناء العرض ودخول وخروج الجمهور دون ضوابط وتجمهر وحركة المصورين للقنوات الفضائية وأماكن تواجدهم لنقل الأخبار عن حادث مأساوي يدعى عرض فني، وهذا أيضا يدخل ضمن مفردات واشتراطات وأصول العرض وثوابتها، في حين لا تجد مثل هذا في مكان آخر من العالم المتحضر، حتما رصد مثل هذا الموضوع الخطير وإصلاحه يصب بالمصلحة الحضارية العليا للبلدان التي تسعى للارتقاء بمجتمعاتها نحو أهداف مثالية متقدمة وراقية. وتحصل على جمهور ناقد ومتلقٍ إيجابي مكمل للعملية الإبداعية وهي منه ولأجله. فالفن والإبداع للشعب هو عكس لمرآة ذاته ودالّة على قيمته ووعيه وثقافته.