يوسف المحمداوي/
الريادة لحضارات العراق بمختلف مسمياتها وتسلسلها الزمني، لم تقف عند حدود خارطة ابداعية معينة، بل كانت تتسابق في مابينها صوب جميع الجهات، فتعددت المصبات بتعدد الروافد الاستكشافية لكل ما يقوّي مرتكزات الحياة واساسياتها بأبهى صورها،
فاذا ما قلنا نحن أول من خط بأزميل الكتابة اول الحروف، تجد القانون معاتبا بمسلة حمورابي، واذا ماذكرت دستور الطب السومري، يلّفك الصمت على هدير اناشيد كلكامش متسائلا بملحمته عن عشبة الحياة، واذا وقفت مذهولا أمام الحس الفني المرهف والنقش النحتي في تكوين الثور المجنح، يعمي بصرك الضوء الساطع من غرفة الملكة شبعاد وهي ترتدي اكليلها الذهبي، وحليّها التي جعل منها صاغتها سحرا اسطوريا يحاكي جمال العصور، فأنى تلتفت ترانا الاوائل في صناعة الحياة للانسانية جمعاء..
المطربة”أور نانشه»
الغناء ،الموسيقى قد يراه البعض اليوم من المحرمات التي لايجوز تداولها، وهذا ما جعله شبه غائبا عن اغلب مدننا الجنوبية ونحن نعيش في القران الواحد والعشرين، حتى وصل الحال ان اغلب مهرجاناتنا الثقافية المقامة هناك، تتحاشى حضور الفن والفنانين، بحيث اصبحت الموسيقى الصوت النشاز، واذا ما تجرأت على التواجد وجدت اصوات الرصاص بديلا عن التصفيق، وتناسى صاحب هذا الفكر الظلامي والطارىء على عراقيتنا، ان من تلك المدن انطلقت أول تلك الأغاني وكتبت أولى النوتات الموسيقية، وغنت ورقصت على أوتار القيثارة السومرية المطربة “أور نانشه” التي كانت من أشهر النساء الموسيقيات في أواخر فجر السلالات السومرية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وكما بين الباحث بهنام ابو الصوف ان هذه الفنانة كانت تغني وتؤدي بعض الرقصات أيضاً وتمثالها المكتشف في مدينة ماري على نهر الفرات يظهرها مرتدية سروالاً وشعرها المجعد متهدلا على كتفيها وظهرها، كما كانت حفيدة العاهل الأكدي المعروف نرام سن(2254-2230 قبل الميلاد) تعزف على القيثارة في حضرة الإله سن إله القمر في معبده الرئيس في اور.
اغنية ليلة “الدخلة»
وكما للوفاة ومراسيم الدفن طقوسه واغانيه، فهناك كما يجمع الباحثون أغانٍ ينشدها العراقيون القدماء في ليلة الزفاف، وتقولها الزوجة لزوجها، كنوع من الحديث العاطفي، بعدما تتصور العروسة نفسها بأنها الآلهة”عشتار”كما يتصور زوجها بأنه الاله”ديموزي”.
وبما أن الاعتقاد السائد – في ذلك الزمن- ان الاله يعود الى الأرض في أول يوم من شهر نيسان من كل عام، فأن الخير والبركة والنماء سيحل في الارض. وتيمناً بهذا القدوم يحصل الزواج المقدس بين الملك وأحدى الراهبات، كي ينجو الملك القادم الذي يليه- حسب اعتقادهم. وتبعاً لهذه الطقوس كان على العراقيين في ليلة زفافهم أن يأخذوا دور تموزي، كما تأخذ الفتيات دور عشتار، فيرددون خلال ليلة “الدخلة”أغنية عاطفية، وأما الازواج الذين لا يرددوها، سيحرمون من بركات الآلهة تموزي والآلهة عشتار، ولذلك، كانت هذه الاغنية التي عثر على مخطوطاتها في منطقة”نيبور”الواقعة في جنوبي العراق وهي مكتوبة في اللغة السومرية وبالخط المسماري على لوح طيني مفخور تعد أقدم أغنية عاطفية في التاريخ رددها العراقيون منذ مايقارب(5000)عام حيث تقول بعض مقاطعها..
وسيم أنت جميل حلو كالعسل
أيها الأسد حبيب أنت الى قلبي
وسيم أنت جميل حلو كالعسل
أيها العروس لقد تمتعت وابتهجت معي
فخذ أمي، وستقدم لك الطيبات
وأبي سيغدق عليك الهبات
روحك أنا أدري كيف أبهج روحك
أيها العروس أغف في بيتنا حتى الفجر.
سالم حسين بين “انانا” و”ديموزي«
مايعزز قدم وعمق جذور تلك الأغنية حوار قديم اجراه الكاتب حميد عبد الله مع الموسيقار والمؤرخ والباحث في التأريخ سالم حسين حيث يقول عبد الله في منزله ببغداد وجدت سالم حسين يدندن وأمامه كتاب من الحجم العريض والكبير مكتوب باللغة الانكليزية، فيما تحتل الرموز الموسيقية صفحات منه، وحين سألته عما يفعله بهذا الكتاب أجابني انه يترجم اغنية باللغة الحورية «وهي امتداد للغة البابلية» اكتشفتها البروفيسورة «آن كلمر» أستاذة الآثار في جامعة شيكاغو وهي مسجلة بصوتها، وقد حظي هذا الأمر باهتمام وزير الثقافة آنذاك فطلب من الفنان سالم حسين الاسراع بترجمتها وتلحينها، ولديه اشرطة صوتية تؤدي فيها البروفيسورة «آن كلمر» الأغنية باللغة الحورية، ويضيف عبد الله طرحت على الفنان سؤالا عن حقيقة اول اغنية حب في التاريخ فقال ان أول أغنية حب في التاريخ ظهرت في بلاد الرافدين في عام 2500 ق.م بين انانا أو عشتار «آلهة الحب» وديموزي أو تموز«إله الخصب»، حيث كان تموز يحب عشتار وعشتار تحب فلاحاً غيره، لكن اصرار تموز على حبه لعشتار جعلها تحبه حتى كتبت عنه هذه الاغنية:
ايها العريس.. حبيب انت الى قلبي
وسيم انت.. حلو كالعسل
ايها الاسد.. حبيب الى قلبي.. وسيم جميل
حلو كالعسل.
أوتار القيثارة
وعن صاحب وموقع الاكتشاف لها يقول سالم: الأغنية وجدت في مدينة «اور» عاصمة الاكديين «400 كم جنوب بغداد»، وقد اكتشفها الاثاري الانكليزي «وولي» وذلك عام 1927، وكانت مكتوبة باللغة السومرية، وعثر ايضاً في نفس المكان على القيثارة الذهبية ومعها 9 قيثارات أخرى، ويبين فناننا الراحل: توصلت التراجم اليونانية الى ان اصل كلمة قيثارة مشتقة من الكلمة البابلية «كناروم» بكسر الكاف وتشديد النون كما جاء في الكتابة المسمارية في عهد حمورابي 1728- 1686 ق. م وهكذا اصبحت «كنارة» ثم قيثارة، ويصف لنا سالم حسين القيثارة الذهبية التي عثر عليها في اور فيقول انها تتكون من صندوق صوتي وساقين جانبين وحامل أوتار أفقي يصل ما بين الساقين الجانبين، أما شكل الصندوق فهو على شكل رأس ثور ذهبي تتدلى منه لحية من الجوهر وفي عينيه حجران، أما القيثارات التسع الأخرى فموجودة في المتحف البريطاني في لندن، أما أوتار القيثارة فعددها 11 وتراً والسلم الموسيقي للقيثارة هو بسبع درجات كما هو معمول به حالياً.
أصوات من الصمت
الدقة وصحة المعلومة عند الموسيقي الفذ سالم حسين تؤكدها المعلومات التي تقول انه في بداية القرن الماضي،عثر علماء الآثار على عدد من اللوحات الطينية التي تعود الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد في المدينة السورية القديمة”اوغاريت” التي كانت تحت سلطة مملكة اور، واحتوت هذه اللوحات علامات مسمارية الشكل باللغة الحورية، وتبين بعدئذ انها أقدم مقطوعة موسيقية تم اكتشافها وهي بمثابة نشيد عمره(3400)عاما، وقامت البروفيسورة في الحضارة الآشورية بجامعة كاليفورنيا في اميركا “آنا درافكورن كليمر” بترجمة العلامات الى نوتات موسيقية، ومنذ نشر اللوحة السومرية والنظريات الموسيقية الموجودة عليها للمرة الأولى في ستينات القرن الماضي، قام العديد من الباحثين بنشر الدراسات عنها، كونها تمثل أنغام أول اغنية في التأريخ، واستخدمت لوحة المفاتيح”ميدي” لمعرفة طبيعة نغماتها على الرغم من انها غير الآلة التي ادى عليها السومريون هذا النشيد، وسرعان ما اصدرت البرفيسورة كليمر بمشاركة كروكر اسطوانة أخرى اطلقا عليها اسم “أصوات من الصمت” وقاما في هذه الاسطوانة بالتكلم عن تاريخ موسيقى الشرق وارفقا الأسطوانة بصور وترجمات عن اللوحات التي أخذت منها الموسيقى بعد اكتشافها، وقدما أيضاً نشيداً أطلقا عليه اسم “نشيد حوري من أوغاريت القديمة” وعزف على آلة القيثارة التي تشبه بشكل الكبير الآلة القديمة التي كانت تعزف عليها الأناشيد، وهناك العديد من القصائد المغناة مثل “سيدة النواميس”وغيرها، وحتى ملحمة كلكامش كل لوح فيها يمثل اغنية بحسب آراء العلماء واصحاب التخصص.