بغداد ــ مهدي الكاظمي/
الموت.. هو ذلك الجسر الذي نمر عليه جميعاً بأسباب وطرق متنوعة. لكن مع هذا الإيمان بحتمية الموت والحياة، لم أكن قادراً على استيعاب صدمة موت أبي، ولا موت خالي الملحن كوكب حمزة. لم يخطر في بالي قط أن أنعى أبي الذي خطفه الموت مني في أيار 2021، لأني مازلت ذلك الطفل الذي لم يشبع من حنان الأب، أو حتى أحلام الطفولة إذ إنه كان أبي وصديقي، كما الحال معك أنت أيضاً، يا خالي وصديقي.
أعرف أن كوكباً ليس لي وحدي، ولا لعائلته وأبنائه، أسامة وجميلة وزينة، بل إنه كان ملكاً للوطن والناس، الذين قدم لهم ومن أجلهم أجمل ألحانه وأغنياته الخالدة. لكنني أريد أن أحدثكم عن كوكب، الأب والخال المحب الحنون والإنسان الاستثنائي، بكل ما تحمله الكلمة من عمق ودلالات، فهو معجون بالطيبة والمحبة والنقاء، ولم أتعامل معه أو يعاملني إلا كصديق.
بمجرد أن تجالسه يتولى هو تكسير كل البروتكولات الرسمية والحواجز وفوارق السن والعادات، ويتعامل معك بعقلك وروحك ويمنحك شعوراً بالسعادة والاهتمام والإحساس بقيمة نفسك وأحقيتك في أن تكون نداً له في أي حوار إنساني أو فني أو سياسي.
إن سماع الخبر المفجع والحزين قد يكون مؤلماً لمحبيه وعشاق فنه، لكن بالنسبة لنا، نحن أسرته وأقاربه، لن يمحى بسهولة من ذاكرة قلوبنا، فما تربطنا به علاقة الروح بالروح. وهنا أستذكر البيت الشعري الشهير
لا تشكُ للناس جرحاً أنتَ صاحبهُ .. لا يؤلم الجرحُ إلا من به ألمُ
بالفعل عندما تكون أنت صاحب المصاب بالرحيل المفجع لمن تحب، وتكون في حالة مأساوية لا تعرف ما العمل، هل تبكي؟ هل تصدق الخبر؟ أم ترضى بالواقع؟ أم أن من الممكن أن نجعل منها على حائط الأمنيات للعودة.. ممكن؟! إنها غفوة، هكذا نتصور ونتمنى.
هنا.. في كل لحظة نسترد شريط الذكريات، كيف نخطط وأين نسهر في الشام؟ ومن نزور؟ وماذا نأكل؟ وماذا نحضر؟ ومن نستقبل من ضيوف؟ هي تفاصيل صغيرة، لكنها تلامس جدران القلب وتضغط عليها بقسوة.
لن أنسى حفل خطوبتي حينما افتخرت بك أمام اهل خطيبتي “هذا خالي ملحن الطيور الطايرة.” أجابوني: “نعرفه جيداً فهو صديق ممدوح عدوان ابن ضيعتنا المجاورة.”
أهل خطيبتي ينتظرونك، ممكن لغاية الآن في ضيعتهم في مصيف الوديعة، التي تحبها، وشريط الذكريات أخذني كيف كنا نأكل ونشرب معاً، وكيف كنت أحمل لك (الكليجة) التي عملتها لك أمي، قالت “هذه لأخي مع الشاي، اعملوا عصرونية.” شريط الذكريات أخذني الى ليلة زفافي وأنت تمنع الجميع من التصوير دوني، قلت “وثق هذه اللحظات لأمك لتقول خالي غنى وعزف لي، وأنت غنيت كل الأغنيات.” أسألك الآن هل رأيت أبي؟ هل لي أن أغني لك كل الأغاني وتعدني أن تعود ومعك أبي؟!
في فجيعة وصدمة خبرك، أحضرت أمي صينية وشموع القاسم، على أمل المراد بالعودة، والقاسم، تلك المدينة التي أحببت وفيها صرخت صرختك الأولى. الناس بين حزن ومحبة، كلهم كتبوا عن رحيلك، فأنت لم تزرع سوى المحبة، لكنك استعجلت الرحيل يا كوكب المنافي والألحان، المفجوع بالغربة رغماً عنك.