سامر أنور الشمالي /
الصحراء برمالها وكثبانها لها الحضور الطاغي في الشعر العربي عامة، والجاهلي خاصة. فالشعراء العرب هم أبناء الصحراء المترامية الأطراف دون سواهم من شعراء العالم. لهذا يعتبر ورود مفردة الصحراء وما يرادفها ويماثلها في القصيدة العربية -ولاسيما الجاهلية- من مستلزمات أغراض تلك القصيدة، خصوصاً إذا كانت القصيدة تبتدئ بالوقوف على الأطلال.
(1)
ولكن لا بد من الانتباه إلى أن الصحراء العربية تقع في شبه جزيرة العرب، أي أن هذه الصحراء محاطة من أكثر جهاتها بالماء. حيث يحدها البحر الأحمر، والمحيط الهندي، والخليج العربي. أي أن الشريط المائي يفوق شريط اليابسة حول شبه الجزيرة العربية حيث عاش فحول الشعراء العرب، ومنهم أصحاب المعلقات.
ما ورد آنفاً شيء يعرفه الدارسون كافة، ونحن نريد أن نتناول في بحثنا هذا موضوعاً لم يأخذ حقه من البحث على أهميته، وأعني تواجد عوالم البحر في الشعر العربي القديم.
قد يجد المعترضون هذا الطرح لا مبرر له، فالموضوع لم يأخذ حقه من البحث لأن الشعراء لم يذكروا البحر في قصائدهم لأنهم عاشوا في عمق الصحراء، ولم يؤموا شواطئها، لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا.
لاشك في أن هذا الرد لا خلاف فيه، ولكن ما يعنينا هنا هو كيف رأى شعراء الصحراء البحر الذي يحاذيهم وإن نأوا عنه بعيدا.
إن من يقرأ دواوين الشعراء العرب -ولاسيما الجاهليين- لا يعثر على البحر إلا لدى قلة منهم، وحتى هذه القلة نادراً ما تذكره لمرات تتجاوز أصابع اليد الواحدة. علماً أن ورود البحر لدى هؤلاء الشعراء لا يقصد بذاته في أغلب الأحيان، بل يأتي للإشارة إلى شيء سواه، فيكون البحر من مستلزمات التشبيه، والاستعارة، والكناية.
أما إذا أمعنّا النظر والتأمل في دواوين الشعراء الجاهليين فإننا نكتشف أن أكثر الشعراء الذين ذكروا البحر في قصائدهم هو الشاعر (عنترة بن شداد) وأعتقد أن دارسيه -على كثرتهم- لم يلتفتوا إلى هذه الناحية، أو للدقة أقول إنه لم يصلني من درس علاقة (عنترة) بالبحر.
وفي دراستي هذه أحاول سبر جانب خفي في شعر وسيرة (عنترة) الذي يعد من كبار الشعراء العرب فهو أحد الذين علقت قصائدهم في الجاهلية على جدران الكعبة.
***
ورد ذكر البحر في ديوان (عنترة بن شداد) في أحد عشر بيتا، وتحديداً في تسع قصائد. وفي السطور التالية محاولة لكشف مفهوم البحر لدى ذلك الشاعر الصحراوي بامتياز، وان لم يعنه البحر كمكان مائي رطب في مواجهة الصحراء وجفافها، بل كان يستحضر البحر بقصد الاستعانة به في معرض صوره البيانية لا غير، فقدما (عنترة) منغرستان في الرمال، وبصره يحدق نحو الكثبان البعيدة التي تحجب البحر، وإن لم تفلح في حجبه عن قاموسه الشعري الفياض بدلالاته.
ترد مفردة (بحر) ثماني مرات في صيغة التشبيه والكناية، نصفها في تركيب واحد هو (بحر المنايا).
ويرد البحر معرفاً بـ (ال التعريف) ثلاث مرات بصيغة المضاف إليه، ومرة في صيغة الجمع، وجميعها في صيغة التشبيه أيضا.
والتأكيد على الصيغة النحوية والبلاغية غير مقصود لذاتها، بل أن لها دلالاتها التي لا تخفى على المتأمل.
(2)
في قصيدة (عنترة بن شداد) الأكثر احتفاء بالبحر، يرد ذكر البحر مرتين، وهذا ما حدث لمرتين أيضا في ديوان (عنترة) كله.
(( فَخُضتُ بِمُهجَتي بَحرَ المَنايا وَسِرتُ إِلى العِراقِ بِلا رِفاقِ ))
يبدأ (عنترة) القصيدة بالتساؤل ما إذا كانت عبلة قد وصلها خبر ما يلاقيه في أرض العراق من صعاب بعدما طلب والدها مهراً باهظاً من النوق، وما لاقاه من مخاطر وهو يحاول أن يحصل على هذا المهر بالسيف الذي لا يملك سواه، إضافة إلى شجاعته بالطبع.
وهنا يرى (عنترة) أن المعركة التي خاضها في العراق هي (بحر المنايا) لكثرة الذين ماتوا فيها، ومع ذلك هو لم يحجم عن خوض هذا البحر، بل خاضه بروحه وحيداً غير هياب من المنية.
وفي القصيدة ذاتها يرد البحر مرة ثانية دون الخروج عن التصور الوارد في البيت السابق. فالبحر أيضا هو (بحر المنايا) وإن لم يذكر ذلك صراحة، فمن المؤكد أنه كذلك لأنه قد فاض على (عنترة) بأمواج من السيوف تدعوه إلى الاستسلام للموت، وإن لم يستسلم.
(( وَفاضَ عَليَّ بَحرٌ مِن رِجالٍ بِأَمواجٍ مِنَ السُمرِ الدِقاقِ ))
وفي القصيدة يبدو البحر جباراً، لا يقوى أشجع الرجال على قهره، لهذا يبرر (عنترة) وقوعه في الأسر بعدما أغرقه هذا البحر في لججه العظيمة، ولكن بعدما أبلى بلاءً حسناً، فلم يقو، على الرغم من صموده، على كبح جماح هذا البحر الثائر والانتصار عليه.
***
(( وَخُضتُ بِمُهجَتي بَحرَ المَنايا وَنارُ الحَربِ تَتَّقِدُ اِتِّقادا ))
أما في هذه القصيدة فنلاحظ أن الشطر الأول يتطابق تماماً مع الشطر الأول من القصيدة السابقة، لولا استبدال حرف الواو بحرف الفاء، والقصيدتان أيضا من البحر الوافر وهو البحر الذي كتب فيه (عنترة بن شداد) أربع قصائد ورد فيها ذكر البحر.
وفي هذه القصيدة يستهل (عنترة) خطابه بالتوجه إلى عبلة، ولكنه هنا لا يسألها إذا وصلتها أخبار معاركه وانتصاراته، بل يحضها على السؤال بنفسها لتعرف أعماله المشرّفة التي يقوم بها، فهو وإن كان أسود اللون فصنائعه بيضاء.
ثم يعرج (عنترة) في هذه القصيدة على الحديث عن إخلاصه ووفائه لقبيلته، وإن تنكرت قبيلته له، وهذا كثيراً ما يشير إليه في قصائد أخرى.
***