إياد السعيد /
تعددت وسائل نقل الثقافة والمعلومة والمتعة عبر وسائل تقنية جديدة وسريعة، لكن بقيت الحاجة إلى ترجمة المنقول بدقة وامانة بحيث لا تفقد المادة المترجمة فكرتها، وذلك يتطلب التركيز على ثقافة المجتمع الذي أنتج هذه المادة لنقلها إلى المشاهد أو القارئ أو المستمع، وهذه من أساسيات حرفية المترجم للحفاظ على المحتوى وروحية النص.
وقد بدأت الفضائيات بالعزوف عن الترجمة المكتوبة اسفل الشاشة والاستعاضة عنها بدبلجة حية ناطقة للحوار بين الممثلين باللغة العربية أو لهجاتها المحلية، مثل المصرية والخليجية والسورية والعراقية، وقد نختلف في تذوقنا لهذه اللهجات الدارجة حين يفضل بعضنا اللغة الام التي انتج بها المسلسل مع ترجمة مكتوبة للتفاعل مع المسلسل وللسياحة الفكرية في اجواء البلد الأصلية، لأن ترجمة أي حوار لا ينقل لك الفكرة 100% حتماً، فهناك اختلافات كبيرة في استخدام مفردات وامثال وتقاليد لا تتطابق مع ما لدى المتلقي، فالأوروبيون مثلاً يعشقون الصيف ويتغزلون بأجوائه، وهذا لا يمكن أن يكون مع العراقيين الذين يرون الصيف جحيماً لهم، او بلد يتفاءل بطائر البوم بينما يتشاءم العراقي منه، وهنا يبرز دور المترجم في اختيار ما يناسب الحال لنقل التفاؤل للمتلقي العراقي، كيف يوفق بين البوم والتفاؤل؟ هل يختار غير البوم طائراً يتفاءل به العراقي؟ وهنا خيانة للنص، ام يذكر النص بترجمته حرفيا؟
تقول المشاهدة (دانية جاسم): “لا احبذ كلمة (أختي) في المسلسلات التركية وهي مقابل مفردة abla ولا كلمة (أخوية) بدلاً من abi لانها تحرمنا من متعة التفاعل مع المسلسل وأشعر أنها مصطنعة وكأنها تمثيل على المسرح، فنقل الواقع يتم عبر الصورة فقط وهي من اختصاص المخرج، اما الحوار فيجب أن يقترب الينا بلهجتنا لاننا نتابع احداثاً اجتماعية ونتفاعل معها ونعيش أجواءها، لكن كلمتي (أخوية وأختي) بدل الاسم، وهي تقاليدنا الشائعة، تُشعرك انك مجبر على تلقيها، وكذلك كلمة امي بدل ماما وصديقي بدل اسمه، وهكذا كلها تبعدنا عن الاجواء وتحرمنا المتعة وهي الهدف من المسلسل بالطبع.”
اما المهندس (أحمد نهاد) المترجم بثلاث لغات فيعارض هذا الرأي، إذ رصد مئات الأفعال التي لا يمكن أن تترجم حرفياً لانها لا تعطي المستمع المعنى الذي اراده الناطق فيقول: “تعلق المجتمع العربي بالمسلسلات المدبلجة، ولاسيما التركية، أوجد لبعض المفردات معانيَ أخرى مثل مفردات (هانم وأوغلو وأفندي) التي لا تقابلها في العربية الا كلمات أو عبارات محورة ودخيلة. فالمترجم يكون قد ترجم إلى اللغة العربية الفصحى ما يوفر سعة اللغة والفرصة الكافية له بان يستخدم الكلمات الصحيحة المعبرة، فكلمة اوغلو تعني ابن، في حين استخدمها المترجم في الدبلجة كلقب ودرج عليها المستمع هكذا، وكلمة سفرجي (النادل) يحار المترجم ماذا يضع لها في الدبلجة عند تعريقها فاستخدم (كارسون)، وبذلك راجت الكلمة بهذه الصيغة شعبياً، وخذ هذا المثل التركي المتداول: “Sen giderken biz dönüyorduk” ومعناه (حين كنتَ تسلك هذا الطريق، نحن كنا في طريق العودة) اي (سبقناك). ويقولها الشخص عندما يشعر بان المقابل ينوي خداعه أو التلاعب أو عندما يحاول شخص أن يعلمه شيئاً هو متقن له.. كيف سينقلها في ترجمته؟ لذا سيبقى الخيار لثقافة المترجم وسعة اطلاعه على ثقافة البلدين: المنقول منه والمنقول له.”
لكن ماذا عن الراي الاكاديمي العلمي؟ وما الفرق بين الترجمة والدبلجة الصوتية؟ يجيبنا (د. رحيم الكعبي)، استاذ الترجمة في الجامعة المستنصرية: “الترجمة ارحم من الدبلجة، مع أن الأخيرة لا تحتاج من المشاهد جهداً للتركيز على قراءة النص المترجم على الشاشة في حال الترجمة، فالدبلجة تحتاج إلى إتقان عالٍ جدا لتحقيق أمرين: أولهما إقناع المشاهد بأن الأصوات التي يسمعها صادرة من الممثلين حتى لو كان يعرف تماماً أنها ليست أصواتهم، وهذا ما لا يحدث أبداً، ولاسيما مع استخدام اللهجات. والأمر الثاني أن المدبلجين بحاجة إلى الذوبان في النص وفي الشخصيات التي يتحدثون بالنيابة عنها، لكن للأسف قلّما نجد مثل ذلك، وربما الدبلجة فاقت الأصل في مسلسلات محدودة مثل (يوسف الصديق). لذلك أفضل الترجمة والنص المكتوب على الشاشة وسماع أصوات الممثلين بدلاً من الدبلجة التي تُشعرني باختلاف جوهري بين ملامح الممثلين وأصواتهم.”
من ناحية عملية، يُجمل المترجم المختص بالدبلجة (إيهاب القصاب) كل العملية بالقول: “إن الترجمة تميل إلى الدقة وسهولة الإنتاج، في حين تحتاج الدبلجة إلى التمثيل الصوتي المكلف والمعقد، فضلاً عن حاجة التطابق الزمني في فترات الحديث، ما قد يودي إلى اختصار أو اطالة في الجملة بهدف المطابقة التي قد توثر سلباً في دقة الترجمة. إلا أن الدبلجة قد توفر السهولة في المشاهدة وزيادة شعور الاندماج. ومع سعة استهلاك المسلسلات والافلام المترجمة والمدبلجة اليوم، تبرز ظواهر جديدة نسبياً، أبرزها الترجمة غير الاحترافية، التي ربما تحتوي حتى على تعليقات المترجم الجانبية. الافلام باللغات الانجليزية والفرنسية وغيرها توفر ايضاً نص الفلم أو المسلسل باللغة ذاتها، كخاصية تسهيل سماع لذوي السمع الضعيف أو الصُمّ، وهذه الخاصية بدورها تسهل عملية الترجمة إلى اللغات الاخرى، وتسهل على الهواة ترجمة الافلام نظراً لسهولة توفر نص اللغة الأصلية. كما يستطيع اي مستخدم تعديل ترجمة الفلم باستخدام برامج بسيطة، وهو ما يودي ايضاً إلى ظاهرة التعديل وسرقة المجهود، وهي ظاهر تبرز في منتديات ترجمة الافلام والمسلسلات، إذ يتبادل الهواة الاتهامات بسرقة المجهود (المجاني غالباً).”
القاعدة التي تقول “ان المؤلف يموت عند تسلم المخرج النص،” هل تنطبق على المترجم ايضاً؟ نعم، لان المخرج هو قائد العمل وعليه ان يتشبع بثقافة طرفي المعادلة، وهما المنتج والمتلقي، ليرفع من مقبولية العمل.