جمال العتّابي
تتعدد الدلالات في رمزية (العيون) لدى الفنان التشكيلي، فبحسب الدراسات والأبحاث التي أجراها مختصو علم النفس لأعمال عدد من الفنانين اهتموا برسم العيون بأشكال ووضعيات مختلفة: مفتوحة، مغلقة، مائلة، واسعة، ضيقة. اتضح أن شكل العيون ونظراتها وإيماءاتها هي رسائل مشفّرة يفهمها المتلقي، وحالات نفسية متعددة لدى الفنان: انطوائي أو متمرد أو خجول، عاطفي أم حسّاس أم يعاني من أزمة نفسية؟
وهكذا، فالتعبير الذي تظهره العيون يكون عادة هو التعبير الرئيس في الوجوه المرسومة، أو حتى الصور الفوتوغرافية. تبدو هذه الحقيقة ماثلة بوضوح في الكشف عن دواخل النفس البشرية مثل العين الجريئة، العاشقة، الواثقة، الحزينة، السعيدة. العيون ناقل قوي للعاطفة يمكن للتفاصيل الدقيقة للنظرة أو شدة التحديق أن تستحضر مجموعة كبيرة من المشاعر لدى المتلقي.
ولطالما انشغل الفنانون في رسم العيون، لأنها ترتبط بالتركيز والحقيقة والضوء والرؤية والنبوءة والوعي والملاحظة، وبالتالي فهي رمز مثالي لهم في استحضار الجمال الإنساني. والكشف عن أعماق المشاعر الإنسانية والروحية. وقد وظّف الفنانون “العيون” عبر التاريخ كوسيلة في إشراك المتلقي على المستويين البصري والعاطفي للتفاعل مع نوافذ الروح التي تدعو للتأمل في أسرار الوجود البشري. ومن بين أكثر الفنانين العالميين شهرة، تتقدم تجربة الفنان بابلو بيكاسو في هذا الميدان، لوضوحها وتعدد النماذج فيها، فإذا كانت تعبيرات العيون هي تعبيرات العيون كلها، فإن بيكاسو استخدم هذه القاعدة أوسع استخدام عندما لم يتقيد بشروطها الحقيقية، وغيّر موقعها في الوجه مضيفاً نوعاً جديداً من الحياة والحركة على العيون نفسها.
طابع درامي
لم ينبهر بيكاسو بجمال العيون أو يخضع لمكانها في الوجه، إنما تلاعب بشكلها وموقعها بروح فيها من الدعابة والمرح، ما يدفع بالمتلقي للبحث والتنقيب بين خطوطه وألوانه بحثاً عن العيون، مهما كان وضعها غريباً وشكلها شاذاً ومناقضاً لشكل الوجه المألوف.
العين هي المفتاح الذي نستطيع من خلاله الاستدلال على بؤرة الالتفات التي تجذب النظر، إنها النافذة المضيئة التي نرى عبرها عالم الفنان كله، ربما هي المقياس لأسلوب تفكيره واتجاه حركته متنقلاً من تيار لآخر. لقد تساءل بيكاسو عن معنى أن تكون العينان متشابهتين متماثلتين، مثبتتين في محجريهما على جانبي الوجه!
في عام 1903 رسم بيكاسو لوحة لوجه امرأة.. كان عمره آنذاك 22 عاماً، اختار أن تكون المرأة تمارس تجارة المخدرات، وغالباً ما كان يختار شخصياته من قاع المجتمع ليكتشف الضعف الإنساني لدى تلك الفئات. لاحظ بيكاسو الاختلاف والتباين في عيني المرأة وهو اختلاف ذو طابع درامي.. الثقة في النفس المبالغ فيها، متمثلة في العين اليمنى، بينما اليسرى زائغة لا هدف لها. تعد هذه اللوحة وثيقة تبرير لاتجاه الفنان باستخدام العينين في تعبيرين متباينين ما دامت الطبيعة نفسها تتخلى أحياناً عن التماثل.
أرسم ما أعرف
حركة العينين بكل ما فيهما من رقّة تمثل نبعاً من جماليات الوجه، ومدخلاً نستطيع من خلاله أن نقترب من كل التعقيدات والمشاعر المتناقضة في النفس الإنسانية للتعرف عليها وفهمها. كانت هذه الحقيقة دائماً أمام بيكاسو خلال تعبيره عن الوجوه بالرسم، اهتمّ بحالات العمى وحالات الحول ثم قدّم تنويعات واستخدامات مبتكرة جعل فيها العيون أداة للتعبير عن دواخل النفس، طالما يردد بيكاسو القول: “إنني لا أرسم ما أرى، ولكنني أرسم ما أعرف”.
حالة العمى وحالة العجز عن الرؤية قضيتان مأساويتان شغلتاه كثيراً، في لوحته (المتسول العجوز) عن شحاذ موسيقي ضرير يبدو فيها في منتهى البؤس والفقر: انحناءة الرأس، وتشابك الأعضاء يكشفان عن مدى تعمّقه في متابعة حركة العميان وسلوكهم.
كما رسم بيكاسو لوحة لصديقته “ماري تريز” عام 1937، بأسلوب يكاد يكون كلاسيكياً.. الشعر مصفف بعناية فائقة يحيط به إكليل من الزهور الصغيرة، الوجه بشري الملمس يبدو جانبياً، مع هذا رسم على الوجه عينين إحداهما في مكانها فوق الأنف والأخرى قرب الأذن، بينما زحزح الأذن إلى أسفل لتفسح مجالاً للعين الثانية، حدقات العيون كأنها عجلات سيارة ستخرج من المحاجر لتتدحرج جرياً على الأرض.. لقد رسم العينين بخوط بسيطة لكن مثيرة للدهشة، تبدو للمتلقي وكأن الوجه يتحرك يمنة ويسرة. يتطلع الينا تارة ويتطلع إلى أمام تارة أخرى، وأحياناً يبدو الوجه مواجهاً وجانبياً في ذات الوقت.
ان فكرة بيكاسو تكمن هنا في تجسيد الصورة التي تطرأ في ذهنه لحظة تذكّره صاحبة الصورة أثناء غيابها، إنها لا تتراءى له في هذه الحالة وكأنه ينظر إليها من عدسة كاميرا.. إن صورتها تتجسد أمام خياله عندما يستحضرها بشكل يختلط في المنظر الجانبي بالمنظر المواجه، من هنا تنطلق فكرة التكعيبيين في تقديم شكل لا يماثل الواقع عند النظر إليه من ثقب حائط.
لقد فتح بيكاسو عيوننا على عدد كبير من الحقائق والأشكال التي لا نهاية لها، ليقدم لنا رؤية أكثر اتساعاً للحقيقة، فكان رائداً في الابتكار وسبّاقاً إلى الإبداع في رسوماته التي تعبر عن فكر عميق ورؤية متبصرة.
تأثير الموناليزا
إن لوحة “الموناليزا” مثال رائع مازال العديد من النقاد غير متأكدين من السبب الذي يجعل الناس يقولون مراراً إن عيني الموناليزا (تحفة دافنشي) تثير شعوراً بالدهشة والغموض، تلاحقان المشاهد أنّى يكون، لتفسير المشاعر وراء غموض الابتسامة وهي حالة يطلق عليها “تأثير الموناليزا”، تلك إحدى أسرار هذا العمل العظيم إلى جانب لغز الشخصية.
الفنان البلجيكي (رينيه ماغريت 1898 – 1967) في عمله “المرآة الزائفة” يرسم عيناً بشرية تملأ فضاء اللوحة، المنطقة المحيطة مباشرة بالجفن. المتلقي يدرك أن الفنان يخلق نوعاً من التحفيز لوعي الانسان في المشهد غير المألوف لقزحية العين، سماء زرقاء تتناثر عليها غيوم بيضاء، يتوسطها بؤبؤ أسود معتم. ماغريت يدعو المتلقي للتأمل في المعنى وكيفية صياغته، القزحية شفافة كما زجاج النافذة لتكشف عمّا في داخل عقل صاحبها، أم هي عين الفنان التي تعيد تمثيل العالم لكن بنظرته هو ومن خلال رؤيته؟
العيون والروح
وتفوق الفنان الإيطالي (موديلياني 1884-1920) على زملائه ومعاصريه في انسيابية خطوطه والأعناق الطويلة الرفيعة والعيون الناظرة إلى الفراغ والانكسار، اكتشف، بوصفه النموذج المتفرد في الأسلوب وحياته الطافحة بالحزن والمرض، أسرار العلاقة بين العيون والروح بالقول: “عندما أعرف روحك أستطيع أن أرسم عينيك”، كان يرسم وجوهاً وأجساداً يضع فيها كل ما في قلبه من حنان وعذوبة، وإن كانت حياته الشخصية تتسم بالعبث واللامبالاة، فإن حياته الفنية كانت على عكس ذلك تماماً، فهي تتسم بالجدية والمثابرة والثقة المطلقة بقدراته وموهبته.
هل نرى العالم كما هو فعلاً؟ أم أننا نرسم للواقع صورة مزيفة على شاشة عقلنا الباطن؟