حوار : محسن إبراهيم
تصوير: علي الغرباوي/
المسرح ميدانه الخصب، حيث يتذكر الكثير منا ما قدمه حيدر منعثر من مسرحيات كوميدية مثل (ملك زمانه) و(جيب الملك جيبه)، التي كانت تحتوي في مضمونها رسائل سياسية مبطنة كان من الصعب أن تطرح في ذلك الوقت.
منعثر، الذي درس المسرح فحاز درجة الدكتوراه، يعد أحد فرسان المسرح العراقي، الذي قاده إلى نجاحات عديدة، ولم يفلت لجام المسرح من يده إلا بعد أن هيمنت وسائل التواصل على حياة الناس.
الدكتور الفنان حيدر منعثر حلّ ضيفاً على مجلة “الشبكة العراقية” فكان لنا معه هذا الحوار:
*جيلكم أحدث قفزة نوعية في الدراما العراقية، لمَ لم تستمر هذه التجربة؟
ــ أذا ما أردنا أن نفسر ونعطي معنىً حقيقياً لما أسميته بالقفزة، هو في الحقيقية كان نوعاً من التحدي، وهذا التحدي أثمر أعمالاً مهمة، ابتداء من مسلسل (غرباء) وما تبعه من مسلسلات أخرى. لكن للأسف، هذه القفزات وهذا الظهور الذي استبشر به المشاهدون خيراً بما شاهدوه من أعمال جديدة، لم يستمرا بذات الوتيرة، وكما تعرف أنه لابد من التجديد في الدراما، ونحن كنا حينذاك جيلاً جديداً، لا أقول إن هذا النوع من الدراما قد توقف، لكنه بدأ يخبو.
*بعد هذه الفترة الطويلة من الانقطاع، ألم تجد ضالتك في الأعمال الدرامية؟
-أتكلم عن نفسي باعتباري أكاديمياً وحاصلاً على شهادات عدة، من الصعب أن أضع نفسي في محطة لا تليق بتاريخي وبشهادتي الأكاديمية. تجري في بعض الأحيان مفاتحتي للمشاركة في أعمال درامية، لكنها لا ترتقي لما قدمته سابقاً، ولا تقدمني إلى المشاهد بشكل صحيح، لذلك تجد أن عملية الانتقاء ورفضي بعض الأدوار أديا إلى أن يغلق الباب أمامي لكوني شخصاً رافضاً، ولا أبدي الموافقة على أي نص دون مراجعة، وبالتالي هذا الأمر سبب حالة من الانحسار والتوقف مقابل الأعمال الدرامية التي كانت بالنسبة لي محطات مضيئة في حياتي رغم قلتها.
الأموال والإنتاج
*ما مشكلة الدراما الأزلية؟
-المشكلة الأزلية في الدراما العراقية هي شحّ الأموال، ليس الأموال فقط وإنما لمن يجب أن يعطى هذا المال لكي ننتج دراما جيدة. العملية شائكة، في بعض الأحيان نقول إن على الدولة أن تموّل الشركات الخاصة، ومرة نقول إنه يجب أن يحصر الإنتاج بالدولة فقط، والدولة بمؤسستها، وهي شبكة الإعلام العراقي، وفي بعض الأحيان تكون الأموال شحيحة داخل الشبكة بسبب قلة التمويل، ولذلك لا يوجد إنتاج درامي. وهنا ستنبري تلك الدكاكين السياسية التي تسمى قنوات فضائية، وبالتالي فإن صاحب المال يحمل أجندة، ويريد أن يقدم دراما حسب مزاجه وما تحمله تلك الأجندة، وبهذه الطريقة لا يمكن ان تتطور الدراما.
*ربما ينسحب ذلك على المسرح أيضاً؟
-أستطيع القول إن المسرح هو ميداني ومضماري، فأنا فارس فيه على كل المستويات كممثل ومخرج وكاتب، وبالتالي المسرح هو لعبتي التي أستطيع أن أتحكم فيها. لكن لجام المسرح فلت من يدي -إن جاز التعبير- بسبب حالة واحدة هي أن ظروف الحياة وظروف المجتمع، فضلاً عن دخول السوشيل ميديا على الخط في حياة الفرد العراقي، أثرت تأثيراً كبيراً على ديمومة المسرح وبقائه. ما كان ينتظره المشاهد في المسرح بات يجده في نقّالهِ الشخصي أو في القنوات الفضائية، وبالتالي هو ليس تراجعاً في منظومتي أنا بقدر ماهو في المنظومة العامة للمسرح التي تراجعت بسبب الهجمة الشرسة للسوشيل ميديا، وهذا يدفعنا إلى أن نعيد حساباتنا في كيفية إعادة الجمهور إلى المسرح، لكن -مع الأسف- أن جمهورنا تعود على ألا يأتي إلى المسرح إلا ليضحك!
خطابات سياسية
*لكن يمكن أن يمرر الكثير من الخطابات بغطاء كوميدي؟
-فعلاً، أنا مرّرت الكثير من الخطابات السياسية الفكرية والفنية من خلال رداء كوميدي، لكن الجسد هو قصة أخرى، وهذه عملية استدراج للجمهور لكي يأتي إلى المسرح.
*هل تعتقد أن المشكلة هي في المسمّيات: مسرح شعبي ومسرح جاد، أم أن كل ما يهم قضايا الشعب ممكن أن يكون شعبياً؟
-هناك مفهوم مغلوط، هو أننا حين نقول المسرحية الشعبية، فإن هذا يعني أنها كوميدية وباللهجة الدارجة. هذا خطأ شائع كبير، وأنا في أطروحتي لنيل الدكتوراه ناقشت هذا الموضوع بفيض كبير. المسرح هو فعل جاد، وعليك اختيار الطريقة والمحتوى، ليس بالضرورة أن يقدم المسرح الشعبي باللهجة الدارجة، وليس بالضرورة أن تكون المسرحية الشعبية كوميدية، ممكن أن تقدم مسرحاً شعبياً بما يهم الشعب وتطلعاته أو ما يعانيه المجتمع، لكن المشكلة تكمن في أن هناك موروثاً غير صحيح ويحوي أخطاء كثيرة.
من تخلى عن من؟
*إذن من هجر الآخر.. الجمهور أم المسرح؟
-هذه الجدلية عمّن هجر الآخر تحتاج إلى حديث طويل، لكن دعني أقول لك باختصار إن المسرح يتحمل النسبة الأكبر من هذا العزوف، فالمسرحي العراقي الأكاديمي بقي مصراً ومتمسكاً بالدرس الأكاديمي، وبقي يقدم المسرحيات بطلاسمها، وتعالى عن فكر ومدركات المتلقي العراقي البسيط، وبالتالي فإن هذا الجمهور عزف عن حضور هذه المسرحيات. هذا الاستعلاء الذي مارسه المسرحي العراقي الأكاديمي على الجمهور خلق بوناً شاسعاً بين خطاب هذا المسرحي وبين ما يحتاجه الجمهور، ومن خلال هذه الفجوة دخل المسرح الرديء الذي لا يحترم ذائقة الجمهور، مستغلاً هذه الفجوة، وبتنا نشاهد مسرحيات بذيئة بلا ضوابط وبلا ذوق. كان على المسرح أن ينتبه إلى خطورة المهمة، ويحاول أن يقرب المسافة بينه وبين الجمهور دون استعلاء، وألا ينحصر التفكير في المهرجانات والجوائز فقط، لأن جائزة المسرح ومنذ القدم كانت الجمهور.
*كم من الخطوط الحمر وضعت أمامك؟
-الكثير، وذلك بسبب أني كنت أقدم مسرحاً شعبياً عمّا هو مسكوت عنه في داخل الشعب، حين ذهبت إلى المناطق التي تهم المواطن التي لا يستطيع البوح بها لأسباب كثيرة، منها الخوف والتردد. أنا اشتغلت في تلك المناطق، وحين تكلمت عن المسكوت عنه وما يعيشه الفرد العراقي وضعت أمامي الخطوط الحمر، بما معناه أني بدأت أتجاوز تلك الخطوط. أنا ليس في فلسفتي أن يضحك الجمهور فقط، وكما قلت لك إني ألبست مسرحياتي الرداء الكوميدي، والكثير من الجمهور مازال يذكر لي أنهم كانوا يخافون على أنفسهم أكثر من خوفهم علي، بسبب ما كنت أطرحه على خشبة المسرح، لذلك فإنك حين تكون صميمياً وحقيقياً وتخاطب عقول الناس وحاجاتهم، فمن المؤكد أنك ستصل إلى ما تريد، وخطابك هنا سيكون إما محذراً أو محرراً، وهنا ستكون الخطوط الحمر عريضة جداً!
*وكم مرة تعرضت لمحاولات اغتيال فنية؟
-هناك الكثير من المحاولات، إذ إن أي تعويق لمشروعك الفني هو اغتيال، وعندما تمنع لك ثلاثة عروض مسرحية، فإن كل منع هو قتل واغتيال لطموحك وجهدك ومشروعك ولآمال العاملين معك. كنت أصاب بالإحباط، لكني أنهض من جديد وأحاول، لأني متيقن من أني أمشي في طريق الأخطار، وأعرف أن النتائج ستكون متعبة، لكني كنت أجازف كثيراً، وحتى الممثلون الذين يشاركوني أعمالي كانوا يتهموني بالجنون، وفي بعض الأحيان كانوا يصابون بالذهول حين أرتجل وأصل إلى منطقة خطرة في الحوار.