الفنان عزيز خيون: المسرح ليس وظيفة وإنما اختيار حياة..

حوار : محسن إبراهيم
تصوير: علي الغرباوي/
عشق المسرح فوهبه الحياة. حمل أحلامه وذهب إلى مدينة أخرى ليصنع مسرحاً ويضع علامة فارقة. أخلص للمسرح فأخلص المسرح له، تاريخ حافل وتجربة تمتد إلى أكثر من 50 سنة، حتى اختير كواحد من عشرة مسرحيين عرب وأجانب أثروا الحركة المسرحية.. مع راهب المسرح العراقي عزيز خيون في حديث عن تجربته الثرّة..
*يقال إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة.. متى كانت خطوتك الأولى؟
-الحقيقة أن بدايتي كانت بعيدة عن التمثيل والمسرح، إذ بدأت مع القرآن حين كنت مرتلاً وأنا صبي في البصرة مع امرأة تعلمنا القرآن، وختمت بعض أجزائه قبل دخولي المدرسة الابتدائية، وهذا الأمر كان له الفضل الكبير ليميزني بأكثر من حالة، فقيل لي إن صوتي جميل، فضلاً عن إصرار أساتذتي على أن ألقي النشيد خلال كل رفعة علم.
انتقلت إلى بغداد، وكانت هناك مسابقة في تلاوة القرآن الكريم، حصلت فيها على المركز الأول، ثم انتقلت إلى النجف بسبب كثرة مشكلاتي وأنا صغير، وهناك سمع الأساتذة صوتي فأخذوا يكتبون ويلحنون لي الأناشيد، فضلاً عن أداء بعض المشاهد التمثيلية، وفي الرسم عشقت الفن التشكيلي، وكان أساتذتي يعدوني كي أكون فناناً تشكيلياً، وتعمق هذا الحب في المرحلتين المتوسطة والثانوية. والدي كان يريد أن أنخرط في السلك العسكري، فقدمت أوراقي، لكني أسقطت نفسي، ثم انتظرت سنة أخرى لكي أقدم على اختصاص آخر.
*إذاً متى بدأ شغف التمثيل لديك؟
-أحد أصدقائي، وهو مهدي سميسم، كان خريج أكاديمية الفنون الجميلة، سألني يوماً: هل تود التمثيل؟ أجبته: نعم أمثل ولمَ لا؟ جسدت حينها دوراً في مسرحية (دورا جاد)، وفي المسرحية الثانية جسدت أحد الأدوار الكوميدية. بعد العرض وقف الجمهور يصفق لي حتى تساءلت مع نفسي، ما الذي قدمته كي أستحق هذا التصفيق؟ رجعت إلى البيت وصوت التصفيق باقٍ في أذني. عرف والدي بأني سأقدم للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة قسم الفنون المسرحية، فخيرني بين طريقين: إما الكلية العسكرية والبيت، وإما الأكاديمية خارج البيت، لكني اخترت الأكاديمية! في أول أيام الاختبار في أكاديمية الفنون الجميلة، وحين كنت أتدرب على أحد المشاهد سمعت التصفيق، فقال الأساتذة أن لا داعي للاختبار، أنت مقبول. بعدها، في زيارة إلى فرقة المسرح الشعبي (مسرح الـ60 كرسي) ومن ثم إلى فرقة المسرح الفني الحديث، حيث كان الأستاذ ابراهيم جلال حينها يعد لتأسيس معهد بغداد التجريبي للمسرح، وهو أول معهد خاص في المنطقة العربية، وكانوا يتهيأون لإخراج مسرحية (المسيح يصلب من جديد)، والعمل الثاني (علاء الدين والمصباح السحري) كان الراحل عوني كرومي يجري تجارب أداء لشخصيات المسرحية، ولم تبقَ سوى شخصية (الإسقريوطي)، فنادى علي وقال: هل تستطيع أن تحفظ هذا الحوار؟ وأنا بطبيعة الحال كانت لدي ملَكة الحفظ بصورة جيدة جداً، بعد الأداء قال: أنت ستجسد هذه الشخصية، وقفت على خشبة المسرح وكنت ما أزال طالباً في الأكاديمية.. منذ ذلك الحين بدأت رحلتي.
*لابد أن هذه الرحلة كانت صعبة في بادئ الأمر؟
-الصعوبة تكمن في أني كنت حينها طالباً وبعيداً عن البيت، وليس لي مورد مادي كي أقضي متطلباتي، لكن الراحل إبراهيم جلال، ومن خلال الراحل ثامر مهدي، اصطحبني إلى الإذاعة قسم الفنون الدرامية، وكان حينها الفنان شكري العقيدي رئيساً للقسم، ومن خلال رسالة إبراهيم جلال أبلغ فيها العقيدي بأني يجب أن أعمل كي اكمل دراستي، فدخلت الإذاعة، ذلك العالم المبهر، حيث وجدت مجموعة كبيرة من الأساتذة، قدمني الأستاذ شكري إلى الأساتذة بدري حسون فريد وخليل شوقي وطعمة التميمي ومجوعة كبيرة من الفنانين، حينها فتح لي باب لم أكن أتوقعه، وكنت أظن أني سأعين نفسي مادياً من خلال ذلك الباب، وإذا بي أدخل أكاديمية أخرى.. لكن بشكل آخر.
*وهل فتح لك هذا الباب موضوعة الإخراج؟
-نعم، بعد التمثيل وجدت في نفسي موهبة الإخراج، فدخلنا في منافسة أنا وحسن حسني وفلاح زكي، قدمنا أعمالنا، وكان موضوعي هو عمل نصر محمد راغب (الساعة والإنسان)، المعد عن الكاتبة الفلسطينية سميرة عزام، وحين تقديم العمل فوجئت اللجنة به، وقالوا لي إن هذا أسلوب جديد في الإخراج. أول عمل كان (الساعة والإنسان)، ومن ثم مسلسل (الضياع) إعداد كاظم الخالدي عن قصة إنكليزية، وكان ذلك في منتصف السبعينيات، شارك في هذا العمل كبار الفنانين منهم إبراهيم عبد الجليل وطعمة التميمي. حينها كتب عن العمل الكاتب والشاعر زهير الدجيلي قائلاً إن عزيز خيون أضاف روحاً جديدة إلى الإخراج الإذاعي، وأنا حينها كنت طالباً في المرحلة الثانية بكلية الفنون الجميلة، لكن العمل الأساسي الذي عرفني إلى الجمهور هو مسرحية (مركب بلا صياد)، الذي حصلت من خلاله على جائزة أفضل ممثل للموسم 1972/ 1973.
*إذاً فإن الإذاعة كانت هي صاحبة الفضل في إبراز موهبتك الإخراجية..
-عشقت الإذاعة، وكان فضلها علي كبيراً، إذ مدتني بثقافة من الصعب أن أجدها في مكان آخر. الأستاذ الراحل بدري حسون فريد كان يدرسني مادة الإلقاء، وهو في نفس الوقت ممثل لدي. وهنا لابد من الإشارة إلى أمر معين، وهو حين يكون الفنانون كباراً وتربويين، تراهم يضعون ثقتهم بمن هم أصغر منهم عمراً. في إحدى المرات طلبت من الراحل بدري حسون فريد أن يعيد المشهد ثلاث مرات، حتى أنه تعصب جداً، لكنه حين طلبت منه أن يسمع التسجيل قال: نعم سأعيد، وهنا تكمن الثقة، تربينا على أيدي هؤلاء الفنانين، وبعد فضل الله إذا منحني الزمن شيئاً فهو بفضلهم. استمررت في الأعمال إلى حين موجة التصفيات التي اجتاحت الإذاعة آنذاك، حين كان كل من لا ينتمي إلى حزب السلطة ينقل إلى خارج الإذاعة، لذا نقلت إلى المسرح القومي، وهناك بدأت حكاية أخرى.
*ربما أنك من أكثر المخرجين ممن منعت أعمالهم من العرض؟
-طرحت اسمي كمخرج في المسرح القومي، وهاجس الإخراج هو ليس رغبة لكي أكون مخرجاً، وإنما هناك إحساس بأننا في حاجة إلى جيل آخر، قدمت عمل (وداعاً أيها الشعراء) للكاتب جليل القيسي، لكنه لم ينجز بحجة أنني ممثل ولا يجوز لي الجمع بين التمثيل والإخراج، قدمت تجربة أخرى ولم تنجز أيضاً لأسباب عديدة، فذهبت إلى فرقة المسرح الشعبي في عمل (قارب في غابة) ترجمة قاسم محمد، بطولة محمود أبو العباس الذي قدمته كممثل مسرحي للمرة الأولى مع عواطف نعيم، مباشرة بعد هذا العمل قدمت مسرحية (الروح الطيبة)، هذ العمل كان يضم ممثلين من مختلف الأعمار وعرض على المسرح الوطني الدوار، حضر إلى المسرح جمهور غير طبيعي، وقد امتلأ المسرح، فيما كان الجمهور خارج المسرح بأعداد غفيرة. في اليوم الثاني أقيم مؤتمر للمسرحيين العراقيين، وكان يقود المؤتمر وزير الثقافة السابق لطيف نصيف، وما إن شاهد العمل على الصفحة الأولى لصحيفة المؤتمر، حتى أعلن منع العرض، لكن بعد أخذ ورد طلب الوزير أن يعاد العرض مرة أخرى لكني رفضت، ثم توالت الأعمال بعد ذلك حتى وصلت إلى العشرات في المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما، فضلاً عن مشاركتي في مهرجانات عربية وعالمية.
*بعد هذه الرحلة الممتدة لأكثر من خمسين سنة.. كيف تصف المسرح؟
-المسرح ليس وظيفة، وإنما اختيار حياة، حياتي كلها تشكلت في المسرح، زوجتي وأسرتي، المسرح بالنسبة لي هو قضية وأنا هنا أعلن انحيازي إلى النص العراقي والمسرح العراقي، وإن أردنا أن ننجز مسرحاً عراقياً خالصاً فإن علينا أن ننجز نصاً عراقياً. المسرح جعل مني إنساناً، في صباي كانت يدي قوية وعقلي فارغ، لكن المسرح قلب المعادلة إذ أضعف اليد وأعطى قيمة للعقل، المسرح أنقذني من براثن الحياة ووضعني على الطريق الصحيح، والدليل هو محبة الناس وتقديرهم لي.