الكحل.. أغنية الأغاني وسحر الشعر

رجاء الشجيري /

هالة المشاعر ومرآتها الأجمل والأنقى هي العيون، فكيف وهي مكتحلة! ألا تزداد بذلك تعابير فاتنة تسبي العقول والقلوب، ولاسيما العيون العربية المكتحلة المعروفة بجمالها الأخاذ الساحر التي تغزّل بها العرب شعراً وغناءً في شتى العصور، فضجّ تأريخنا الشعري والغنائي بصور بديعة عن جمال الكحل العربي في عيون الحبيبات… فكيف كان الكحل في الشعر والأغاني؟
نشأته
الكحل مشتق من الأِثمد، الذي هو حجر “الأنتيمون”، وهي كلمة مشتقة تعني “المعدن غير الموجود بمفرده”، وفيه أيضاً معدن “السولفيرا” أو “أوكسيد السولفيرا”. ومن أملاح هذا الحجر يؤخذ الكحل، وأجود أنواع الأثمد موجود في المغرب وأصفهان الإيرانية، إذ يُطحن حجر الأثمد ثم يوضع المسحوق في ماء ورد أو زيت خروع أو زيت زيتون، ثم يوضع بعد ذلك في مكحلة ويُتكَحَل به عن طريق “المرود”، وهو أنبوب صغير خشبي أو عاجي أو فضي أو زجاجي يبلل بهذه المادة المنقوعة وتكحل به العين.
كان العرب يطحنون بذور البلح بعد أكلها وينقعونها كذلك بالزيوت ويكتحلون بها. وقد اشتهرت زرقاء اليمامة الحادة البصر بين قومها بأنها كانت تتكحل بكحل الأثمد الذي كان يُعتقد أنه السبب في حدة بصرها هذه، فلم تخلُ عيناها منه يوماً. كما أن للكحل جذوراً سومرية أيضاً في صناعته واستخداماته للزينة والتطبيب، كذلك عرفت كليوباترا، الملكة الفرعونية، بأنها أول من رسمت العيون بأشكال مختلفة وجدت في الألواح، وكانت تعدُّ الكحل من أهم أدوات جمالها وسحرها.. وهكذا امتدت صناعته وشكله الأول إلى أن تطور وتعددت أشكاله من أقلام إلى سائل ثم جرى إدخال مواد كيميائية كثيرة بعضها سام ومضر أكثر مما هو زينة وليس كما الإثمد الذي كان يُعد صحياً بل ومعززاً لفوائد جمة للعين والرمش..
قصائد مكحلة
للعاشقين ويلاتهم وأشجانهم.. ولعل خير من يمثل شدة ولههم هم الشعراء في الغزل والشكوى والمدح ووصف للعيون الكحيلة وسحرها الأسود، فابن هانئ الأندلسي يعلن افتتانه بكحل معشوقته فيقول:
حسبوا التكحل في جفونك حيلةً
تالله ما بأكـفـهم كحلـــوكِ
في حين تشتعل حرب الحب عند الشاعر سليمان الهواري فينشد: الكحل في عينيكِ بارود، والكبريت قلبي..
وابن الرومي ينشد لكحل الحبيبة أيضاً بقوله:
يسبي العقول بمقلةٍ مكحولةٍ.. بفتورِ غنْجٍ لا فتور نُعاسِ
فيما يرى محمد بن سعيد البوصيري أن حبيبته لم تتكحل بالأثمد بل إنها في حسنها كالغزال دون زينة:
لا تحسبوا كحل الجفون بزينةٍ
إن المها لم تكتحل بالاثمدِ
ومن رسائل لعاشق يكتب لحبيبته فيقول لها: أما قبل.. فلا تضعي الكحل في عينيكِ أبداً، ولا تقرئي الشعر علناً، وإياك إياك أن تكوني جميلة هكذا….
فتجيبه الحبيبة: أما قبل.. فإني أحمد الله عليك دائماً وأبداً وأقول لك ما الكحل في عيني إلا أنت، وما قرأت الشعر يوماً إلا لك…
أما في شعرنا الشعبي فقد برع الشعراء في وصفهم وغزلهم أيضاً، فها هو شاعرنا الكبير مظفر النواب يحيل الكحل إلى واسطة نقل في إحدى قصائده! فيقول :
وديت جفن الكحل
مشحوف ناكل حسن
ومن الشعراء الشباب أيضاً صباح الطائي إذ يقول:
المهم روحي العشك بلش يسلها
الأحبها مبديه ليل الله بكحلها
ولعل من أبرز الكتب التي تناولت الكحل في الشعر الشعبي كان كتاب “الكحل في الشعر الشعبي العراقي” لسعدي جبار مكلف، ففيه جمع وسرد رائع للشعر الشعبي عن الكحل تحديداً.. ومن نماذج الشعر فيه:
يبنية كافي من الكحل
جنج حبة الحلوة
تشل رمشين صفنة عين
من تتكحل السمرة..
أو أبيات أخرى تقول:
مو شاب كلبي من الخجل والكحلة هدت حيلي
يبنية بطلي الكحل
جرت عيونج كافية..
الكحل في الأغاني
العيون الكحيلة كانت لها حصتها بجمالية في خلد المطربين وأصواتهم أيضاً، فنجدها في كثير من أغانيهم، فمحمد عبده بلوعة غنى:
على شط الكحل مريت
وهذا موضع أقدامي
أدور عن ذهب عمري
بقايا كنزي المفقود
كما غنى سعدون جابر وأعلن عدم رضاه عن دمعها مع الكحل في أغنية “دمعة وكحل”
ما ارضى دمعة ويه الكحل
ما ارضى كلبج يحتار
وهي من كلمات كريم العراقي وألحان محسن فرحان.
و”مهضومة شدات الورد يا حمرة الشفة” لستار جبار وهو يغني “موش العلى جفوني كحل هذا سواد الماي” وهي من كلمات ذياب كزار(ابو سرحان). وغنى سامي كمال قصيدة مظفر النواب”مضايف هيل”: “ميلن لا تنكطن كحل فوك الدم.. ميلن وردة الخزامة تنكط سم”.
وفي مقطع أغنية “على الحواجب يلعب الشعر الحرير” التي كتب كلماتها الشاعر الراحل جبار الغزي ولحنها وغناها فاضل عواد:
بشوكي احضنهم ترافه وياسمين
ولو يجون هلال عيد وكحل عين”
ومن الأغاني العراقية القديمة جداً كانت أغنية: “كحل الياسمين عينه بالندى” للمطرب عدنان محمد صالح التي كتب كلماتها حسن نعمة العبيدي..
وغنت أديبة “بصراوي عينه مكحلة” وهي من ألحان قحطان العطار
وتغزل وديع مراد فغنى لحبيبته:
“العيون لولي والكحل فتان
يا شفايف قولي كلمة للعشكان”..
وهكذا بين شاعر ولهان ومطرب أعياه الافتتان زخر تراثنا الشعري والغنائي بأجمل اللوحات عن الكحل في عيون الملهمات..