محسن العكيلي/
يقبض على المستحيل في محاولة لتجسيد فكرة الخلود، من خلال نافذة التصوير، فيداعب لذة المشاعر الممزوجة بالذكريات التي تضيع في زخم مشكلات الحياة، يقتنص اللحظة الحاسمة ليمزجها مع أفكاره فيتوقف الزمن، ويحتضن المكان ليذوب في بوتقة الضوء، فالذاكرة صورة تسرق اللحظة، هي أشبه بالسحر، كما يقول عالم النفس (كارل فوستاف) “(لا نحيا مباشرةً سوى في عالم الصور”).
حين ننظر إلى أعماله، يطرق بابنا الحنين إلى تلك الأيام، حيث الأسود والأبيض، فنعيش معه قلق الانتظار من أجل إظهار صورة ما. هو ذات القلق الذي ينتاب المصور وكأنه في انتظار مولود جديد. إذ إن الصورة لدى المصور هي شعور حسي، يراها بالروح ويطبعها على القلب. هو عشق من نوع خاص، وذاكرة تاريخ تكتب بمداد الضوء، يعتّقها الزمن فتلمع ذهباً معرفياً.
استطاع المصوران الأهليان، عبد الرحمن محمد، وقدري عبد الرحمن، أن يحبسا الزمن في صور فوتغرافية وثقت تاريخاً مرئياً، أبطاله رؤساء وسياسيون وفنانون.
الذاكرة الملموسة
في بداية عام 1921 وطئتْ قدماه أرض شارع الرشيد، فألقى عليه نظرة عميقة متفحصاً المكان وكل ما فيه، وقد صمم على أن يكون المنطلق من هناك، سنون طوال مشى فيها ومشت فيها الحياة، اجتهد في أن تكون الذاكرة شيئاً ملموساً, قطرات عرق جبينه كانت تتبلور صورة حية تنقلها عدسته لتؤرشف الزمان والمكان, وكم قطعت قدماه هذا الشارع، وفي لمح البصر كان يسعى خلف الفكرة, يمشي ويخوض عباب الذكريات, ماسكاً عصا سحرية هي عبارة عن كاميرا فوتغرافية, ليؤسس المرحوم عبد الرحمن محمد أول ستوديو عراقي للتصوير الفوتوغرافي، حين انطلقت مسيرته في تسجيل أحداث العراق السياسية والاجتماعية، مؤرشفاً كل ما يخص المجتمع العراقي منذ تأسيس دولة العراق.
ورث تلك الهواية عن أبيه الضابط في الجيش العثماني، وتعرف على طريقة صنع مكائن التصوير خلال وجوده في الأسر في مدينة السويس في مصر. تشييع الشيخ ضاري كان انطلاقته الأولى في توثيق التاريخ، ليؤرشف في العام ذاته تتويج الملك فيصل الأول على عرش العراق، فضلاً عن توثيق إنشاء أول فصائل الجيش العراقي، وتأسيس القوة الجوية العراقية، وأول مجلس لغرفة تجارة بغداد عام 1924، وإقامة البرلمان العراقي 1928، والمظاهرات والإضرابات السياسية، مثل أحداث 1930 ضد المعاهدة البريطانية العراقية، وإضرابات العمال في النصف الثاني من الثلاثينيات، ووثبة كانون الثاني 1948 ضد معاهدة جبر- بيفن، وتقسيم فلسطين.
إرث الذاكرة..
قدري عبد الرحمن، الذي كان يسعى لأن يكمل ما بدأ به والده، واستكمال مسيرة إرث ذاكرة التاريخ، استعد لأن يكون المكان الذي ترعرع فيه متحفاً للصور التاريخية, كان يجلس في ذلك المكان، متأملاً، ليستعيد الذكريات التي جسدت تاريخ وطن, وكاد أن يوشك على إنهاء ذلك المشروع في جمع كل ما هو نادر من الصور التاريخية، لتعرض في إحدى قاعات لندن، بعد أن نالت تلك الصور استحسان وإعجاب كل من وقعت عيناه عليها، من عراقيين وعرب وأجانب، يوم عرضت بقصر الفنون في بغداد, لكن المرض لم يمهله طويلاً. ليبقى اسم المصور الأهلي قدري عبد الرحمن خالداً يذكره الكثيرون لما كان يمثله من حرص على توثيق كفاح الشعب العراقي. ذلك الإرث الذي تحدثت عنه ابنة المرحوم قدري بألم، وهي تروي أحداث سرقة تراث جدها وأبيها حين مغادرة العائلة العراق، وتأمين ذلك الإرث عند أشخاص معينين، لكنهم مع الأسف خانوا الأمانة، حين تحول أرشيف المصور الأهلي إلى شخص مجهول بات يتاجر به ويدعي أنه اشترى ذلك الإرث.