الممثل والمخرج المسرحي سمير عبد الجبار: مابعد الحداثة هروب من مواجهة الواقع وأزماته

مناضل داوود /

بسيط وعميق، حديثه يشبه الرحّالة الذين أفنوا أعمارهم وهم يجوبون أراضي بلاد الله الواسعة بحثاً عن لذة الاكتشاف لكل ماهو جديد للعين والفكر والروح، للعين مايستطيع أن يمحو أميّتها، وللفكر مايقلقه ويكثر من اسئلته، وللروح أن تستعيد طفولتها كل لحظة.

تجربة هذا الممثل الراهب سمير عبد الجبار تعد دروساً يتعلم منها طلاب المسرح..

كربلاء … بغداد

* ماذا تعني لك كربلاء؟

– ولدت في مدينة كربلاء في عائلة كانت ترزح تحت طائلة الفقر، فتحت عيوني ونشأت مع جدة وأم تجيدان القراءات الحسينية (ملالي) ايام عاشوراء، كبرت في هذا المناخ في بيتنا المكون من غرفتين والذي لايسع الى ثلاثة عشر طفلاً والذي كان هدية من الزعيم عبد الكريم قاسم الى فقراء كربلاء. وأنا صبي كنت اشاهد وأشارك في طقوس دراما أهل البيت، كان يؤلمني موت القاسم بعد زفّة العرس وموت علي الأكبر، أحيانا أشارك ككومبارس في طقس حرق الخيم أو راكضاً في عزاء طوريج، كل هذا شكل في اللاوعي ميلي وحبي الى المسرح الفطري.

رحلة باريس

أنهيت دراستي في المعهد بدرجة (متفوق) في الإخراج عام 1975، في مدينتي كربلاء، مارست عدت أنشطة فنية تتراوح بين التمثيل والإخراج مع بعض الفرق الأهلية والحكومية ثم غادرت عام 1981 الى فرنسا من أجل الحصول على شهادة الدكتوراه في المسرح، عادلت شهادتي وقبلت في جامعة السربون ١ واحد والمختصة بالمسرح والسينما ومرتبطة دروسها مع المدرسة العليا للتطبيقات الفنية، حصلت على شهادة الليسانس خمس سنوات ودبلوم معمق سنتين لأجل الحصول على الدكتوراه وكانت أطروحتي (التأثير المسرحي في السينما الألمانية الجديدة)، ومن أجل لقمة العيش عملت خلال عشر سنوات في برج ايفل. بعدها قدمت استقالتي، وأسست فرقتي المسرحية التي أعطيتها اسم (قوس قزح) وقدمت عملي الاول مسرحية (الغائب) إعداد عن رواية الكاتب العراقي محيي الأشيقر (أصوات محذوفة) وقصة الكاتب العراقي جبار ياسين (سماء مكفهرة) ثم امتدت قائمة الأعمال المسرحية. أما في السينما، فقد قدمت أدواراً عدة في أفلام متنوعة تتراوح بين صغيرة وسلويت، في التلفزيون عملت كثيرا في قناة زائد اسكيجات كوميدية سياسية آخرها كان من بطولتي، اسم الحلقة (باربي مالذي عملناه لك ).

* لماذا اصبحت ممثلاً؟ ماذا أعطاك التمثيل وماذا أخذ منك؟

-لم أطرح على نفسي يوماً مثل هذا السؤال: لماذا اصبحت ممثلاً، لايمكنتي أن أرى نفسي بغير هذه المهنة اللذيذة والعذبة والممتعة والمؤلمة والأخاذة.

حكايات وقصص

*مالذي أعطاك المسرح والتمثيل ومالذي أخذه منك؟

-المسرح يسمح لك أولاً أن تفكر ويعطيك إمكانية على الكلام والاحتكاك، والتواصل مع المتفرج يعطيك إمكانية أن تسرد حكايات وقصصاً تعبر من خلالها عن عواطفك ومشاعرك وأفكارك. أما مالذي أخذه مني التمثيل والمسرح، فقد أخذ كل وجودي وميزاتي وعاداتي وتقاليدي ومعارفي التي مصادرها الميزوبوتامي والموروث الشعبي العراقي والكربلائي، أخذ مني فرديتي ونرجسيتي.

صينية القهوة

*هل تولد الكوميديا من رحم التراجيديا؟

-سؤالك في غاية الخطورة ومهم جداً، الكوميديا تولد من رحم التراجيديا، من الموقف والحالة الدرامية، إذ ليس هناك ممثل كوميدي يضحكنا بعمق حتى الهذيان إن لم يكن ممثلاً تراجيدياً، لأن درامية الممثل وتراجيديته هي التي تجعلنا نضحك وليس تكشيرات عضلات وجهه او حركة حواجبه اوعينيه، هذا المبدأ يقوم عليه الكثير من ممثلي الكوميديا العالميين مثل العبقري الانكليزي تشارلي شابلن أو الفرنسي لوي دفونيس والممثل المصري عادل إمام. أعود لسؤالك هل الكوميديا هي الدفاع عن النفس والوجود؟ أقول: هي نوع من التحرر ومتنفس وخلاص من ضغط العامل النفسي الداخلي والذي يأخذ بفضل (الطاقة) التي تعمل كمبدأ أساسي وجوهري للممثل في رسم جسده وخلق أفعاله وحركاته، هذه الطاقة لها حضور في الفضاء والزمن وعلى الممثل ان يقتصد فيها ولا يهدرها مثلما يقول المنظِّر الكبير والمخرج يوجينو باربا.

الفنان الخلاق

*حين بدأت دراستك في السوربون، هل شعرت بأنك بدأت من الصفر أم كان لقاسم محمد في معهد الفنون الجميلة ببغداد أثر في تربيتك المسرحية؟

-في السوربون تعلمت أن أكون تلميذاً مطيعاً يذهب يومياً لمتابعة الدروس العملية والنظرية وعمل دراسة وبحث ولكن لحسن حظي، أنا الميال دائماً الى الجانب التطبيقي والعملي، كنت أقدم دراستي كمشروع عملي، سينمائياً اشتريت كاميرا (٨مليم) مع أدوات مونتاج، وطيلة سنواتي في السوربون كنت أقوم بإخراج أفلام روائية قصيرة وطويلة مازالت موجودة ومحتفظ بها. ومانعلمته من استاذي قاسم محمد هو التأثير في الإصرارعلى الحلم والمسرح، الإصرار في أن أكون، كنت حين أنهي دروسي انتظر الساعة الثامنة لكي أدخل الى المسرح وأشاهد طريقة الإخراج وأسلوب التمثيل، السوربون علمني المنهج الصحيح في التلمذة والحصول على الشهادة، اما قاسم محمد فقد كان هو الموديل الحقيقي للفنان الخلاق.

مابعد الحداثة

*ينشغل الأكاديميون في بغداد بتجربة مابعد الحداثة كثيراً، هل لك أن تحدثنا عنها؟

-مابعد الحداثة هي مراهقة فنية وهروب فاشل في عدم مواجهة الواقع وأزماته، الجمهور يأتي الى المسرح ليس من أجل أن يرى كولاج او بلاستيكية جسد وأجساد الممثلين لاهثين في خلق صور لا معنى لها وهم لا يفقهونها فقط، لأن حضرة المخرج (مابعد الحداثوي) فرضها عليهم من الخارج، لماذا هذا الاحتقار والتعالي والتجاوز على المتفرج المسكين الذي ترك بيته او عمله بعد عمل شاق واخترق مسافات وأجّر تكسيات واشترى تذكرة لمشاهدة عرض ينسيه همومه او يتحدث عنها عرض يصور له كيف يسقط الثلج على رؤس عشاق او على رجل غريب او فقير يسرد له حكاية بسيطة إنسانية ودافئة في عمقها او قصة درامية تمسّه وتبكيه وتضحكه، بالنسبة لي شخصياً أن مابعد الحداثة هي مراهقة فنية وهروب فاشل في عدم مواجهة الواقع وأزماته.