النوتة الفطريَّة.. روح النغـــــم الساحـــــر

عادل مكي /

للنغمِ روحٌ وسحر يتسلقان المسامع دون زخارف وحليات مصطنعة، حالةُ تجلٍ روحي داخل الذائقة النغمية فور التلويح باللحن الخالد، وربما هنا يسأل سائل متذوق ويستنشق الأوكسجين والنوتة النغمية على حدٍ سواء: ما الفرق بين عازف النوتة الموسيقية والعزف السماعي؟
ونجيب بأنه في البداية كانت الموسيقى تعزف بطريقة السماعي، وبعدها ظهرت النوتة الموسيقية المكتوبة بلغة خاصة، وكان الهدف منها هو حفظ الألحان والمقطوعات الموسيقية من الاندثار والنسيان، كذلك كي يتم التوحيد الكامل بين عازفي أفراد الفرقة الموسيقية، ولاسيما مجموعات الوتريات النحاسيات والخشبيات. وفي هذه النقطة تحديداً إذا تطرقنا إلى الفارق ما بين عازف السماعي وعازف النوتة الموسيقية، سوف نجدهُ كبيراً جداً، مع جملة من الإيجابيات والسلبيات، فعازف السماعي تعلم العزف من خلال موهبته الفطرية التي ساعدته على حفظ جميع الأنغام والمقامات من خلال الاستماع الطويل والمثابرة والتمارين الطويلة، وخير شاهد على ذلك الكثير من العازفين المخضرمين أمثال الفنان عازف الكمان الراحل فالح حسن، الذي أجاد العزف بطريقة محترفة، إذ أبدع في عزف كل الأنغام والأطوار العراقية المتعددة. كما كانت لتلفزيون العراق جمهرة كبيرة من عازفي السماعي، أو ما يطلق عليهم فرقة (ب)، وكانت غالبيتهم من فاقدي البصر، لكنهم كانوا محترفين في ذلك المجال.
أما أبرز عيوب عازف السماعي، التي نتلمسها بوضوحٍ حسي، فهي عدم معرفته بقراءة النوتة الموسيقية والإبحار الكامل في علم الموسيقي، لأنه علم يشتمل على الرياضيات والحسابات الفنية والعلمية الدقيقة. أما عازف النوتة الموسيقية، فهو قد درس علم الموسيقى بطريقة علمية أكاديمية مكنتهُ من كتابة وقراءة النوتة الموسيقية، لكن في الأعم الأغلب أن عازف النوتة يفتقد إلى روحية عازف السماعي، ولاسيما في الأنغام والأطوار الريفية. لكن علينا أن نعرف أن الجمع بين الطريقتين في عازف واحد هو غاية المراد التي يطمح إليها كل فنان كبير ومحترف بأحاسيسه.
وخارج إطار النوتة المحلية، وبعيداً عن مدياتها المحدودة، فعندما نتحدث عن موسيقى الغرب، نجد أنهم لا يستغنون عن النوتة أبداً، كذلك الحال مع عازفي الإيقاعات الغربية، إذ نجد أنهم يعزفون على (رتم) واحد بدون زخارف وحليات، وكأن واحدهم يسير على سكة قطار لا يحيد عنها أبداً، ويعزف بحالة انقطاع روحي خالص، إذ أن النوتة الموسيقية لديهم تستخدم لتدوين كل حرف موسيقي وكل حلية وزخرفة، ولا يوجد أي مجال للخروج عما هو مكتوب فيها.
أما في الموسيقي العربية، فإننا نرى في معظم حفلات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ الاستغناء عن وضع النوتة الموسيقية أمام العازفين خلال الحفلات المباشرة. ولاسيما إذا كانت الأغاني طويلة نوعاً ما، والسبب هو أن تلك الأغاني تحفظ عن ظهر قلب بعد (بروڤات) طويلة ومكثفة تستمر لأشهر عديدة، الأمر الذي يجعل العازفين المهرة وأساتذة العزف يعزفون وكأنهم يقرأون النوتة الموسيقية بدون أي خطأ.
ولنا أن نستشهد هنا بفرقة الفنان كاظم الساهر، بأنها قد استغنت عن النوتة الموسيقية في آخر حفلاتها مع القيصر، عندما عزفت جميع أغانيه الطويلة والقصيرة بدون استخدام النوتة الموسيقية، وهذا دليل بمهارة تلك الفرقة المحترفة التي رافقته لسنين طوال، الأمر الذي جعلها تحفظ أغانيه عن ظهر قلب.
إذن، فإن النوتة الموسيقية هي أفضل وسيلة لحفظ الألحان بجميع فروعها وتنوعاتها، لأن شكلها ثابت ومحدد بخمسة أسطر تسمى (المدرج)، أو السلّم من الأسفل إلى الأعلى، حيث تكتب النغمات على السطور وما بينها، ويؤشر فيها موضع كل نغمة بمكان ثابت لا يتغير.
كما لا يفوتنا أن نتطرق إلى قضية استخدام النوتة الموسيقية في معظم تسجيلات الستديوهات الصوتية، ولاسيما عندما يكون اللحن موزعاً على مجموعة من الآلات الموسيقية الوترية والنحاسية، بإشراف الموزع الموسيقي الذي يكتب النوتة الموسيقية لأي عمل موسيقي. كذلك أسهمت التقنية الحديثة باستخدام نظام (الأتركات)، الذي سهل الكثير من عمليات الخزن والحفظ والتسجيل. لكن السؤال الذي يبقى عالقاً في أذهان الكثير هو: لم لا يستخدم عازفو الإيقاعات النوتة الموسيقية في الحفلات الموسيقية؟ وهل هناك نوتة موسيقية خاصة بعازفي الإيقاعات؟ الجواب هنا هو أن الأغنية العربية زاخرة بكم هائل من الأوزان الإيقاعية المختلفة، لكن عازفي الإيقاعات العرب يحفظون -عن ظهر قلب- كل أشكال وأوزان الإيقاعات المختلفة، فتراهم يجيدونها بـ (حرفنة) كبيرة أسهمت في إغناء الأغنية العربية بشتى أشكالها وصنوفها اللحنية المختلفة.
اذن، فإن النوتة الموسيقية ضرورة حتمية لأي عمل فني، صغيراً كان أم كبيراً، فكل الألحان الخالدة وثقت للتاريخ عن طريقها، بعد أن برع فيها الفنان العربي وقدم للذائقة السمعية أشكالاً وألواناً متعددة من الغناء، لكن يبقى هناك سؤال: هل يفقد عازف السماعي روحيته التي اكتسبها إذا تعلم فن قراءة وكتابة النوتة الموسيقية؟ والجواب لا طبعاً، إذ أنها فقط ستجعله ملماً ومحترفاً لو جمع بينهما، وهي غاية ما يتمناه اي موسيقي يبحث عن التجديد في هذا العالم النغمي الساحر.