حوار: محسن إبراهيم/
سنوات عدة من الركود والتهميش اللذين لازما الحركة الفنية في العراق، وألقيا بظلالهما على مجمل الإنتاج الفني، ولاسيما في مجال السينما، لكن شاباً عراقياً، ومن خلال فيلم عراقي خالص، تحدى العقبات التي تعترض طريق النهوض، وأعاد للحركة السينمائية عافيتها. آمن بأنه لا بد من تذليل كل عقبة تعترض طريق النهوض بالواقع السينمائي، فمضى في مهمة انتحارية كان نتاجها فيلم (جنائن معلقة).
استطاع هذا الفيلم أن يترك بصمة واضحة في المشاركات العربية والعالمية، وحصد العديد من الجوائز، ورشح مؤخراً لمهرجان الأوسكار السينمائي.. مع مخرج الفيلم أحمد ياسين كان لنا هذا الحوار..
*بعد حصد جوائز عدة ومشاركات عالمية وترشيح لمهرجان الأوسكار، ما أبرز الرسائل أو المواضيع التي حاولتَ التطرق إليها في الفيلم؟
-أنا لا أحبذ مفردة الرسائل، صانع الفيلم لا يمكن أن يحمل رسائل، فالرسائل تنتمي إلى عالم آخر، ربما عالم الأشخاص الذين يمتلكون أداة أخلاقية لمنح الرسالة، أما صانع الفيلم فإنّه يطرح أسئلته الشخصية وفهمه الشخصي ورؤيته لما يدور حوله، ومن هذا الباب أستطيع القول إن (جنائن معلقة) طرح أسئلة جيل مقبل، وما بعد 2003 طرح أسئلة الصدام الثقافي الذي حصل بعد الاحتلال الأمريكي، فضلاً عن أسئلة أخرى تخص الطفولة والبيئة والمرأة، أعتقد أن هذه هي أهم الأسئلة التي حاولت أن أطرحها من خلال فهمي لها.
*لغط كثير حدث حين عرض الفيلم على مسرح الرشيد؟..
-هذا شيء مفرح، في النهاية فإن المادة السينمائية البصرية، والفيلم الذي لا يثير مشاعر الجمهور سلباً وإيجاباً، أعتقد أنه سيكون فيلماً عابراً أو دعائياً، هذا اللغط كان متوقعاً، وأنا فرح جداً به. كل فيلم يطرح أسئلة، ويجب أن تكون خارج المألوف، أسئلة تقرأ الحياة وتفاصيلها من زاوية أخرى، وتحاول أن تسلّط الضوء عليها، وليس من السهل أن تبحث في منطقة الاجتماع العراقي، وكما تعرف أننا منذ 3003 إلى الآن لا نمتلك هوية ثقافية محددة، ولا نمتلك وعياً بصرياً مطلقاً، وبالتالي فإن أي شيء جديد ممكن أن يثير الآخرين، وكما يقال “إن الناس أعداء ما جهلوا”.
*أنت وصفت إخراج هذا الفيلم أشبه بالمهمة الانتحارية؟!
-خمس سنوات من لحظة الكتابة إلى لحظة وصول الفيلم إلى مرحلة الإنتاج، تخيل كيف تكون عملية التصوير في زمن (الكورونا)، وكيف تصور فيلماً وأنت لا تمتلك أي دعم أو تمويل، المنتجة (هدى الكاظمي) رهنت منزلها واقترضت من البنك لتمويل الفيلم، فضلاً عن عدم الاستقرار الأمني ووجود هذه الكمية المنفلتة من السلاح والصراع الآيديولوجي، إنها مهمة انتحارية حين تصنع فيلماً وتتحمل كل أعباء هذه التجربة بكل تفاصيلها، وتحاول أن تقدم شيئاً يحمل اسمك، وأن تصور بفريق عراقي يمتلك خبرة بسيطة بصناعة السينما، كل هذه الأمور ممكن أن تقتل صاحب الفيلم إن لم يخرج بالجودة التي تتمناها.
*اختيارك للطفل حسين محمد، كونه لم يسبق له التمثيل من قبل، فيه مغامرة كبيرة؟
– فعلاً إنها مغامرة كبيرة، العمل مع الممثل المحترف في العراق فيه شيء من المغامرة، لكنه على الأقل يمتلك الأدوات الأساسية للصناعة ويفهمها، اختيار حسين لم يكن من السهولة من حيث جرأة الفكرة وبيئة التصوير التي كانت في منطقة الطمر الصحي، أن تأتي بصبي وتجعله في تلك البيئة، فهذا شيء صعب جداً، محمد موهوب وذكي، واستطعت أن أخرج أفضل ما لديه، ولاسيما أن أسلوبي في العمل ليس أسلوباً وظيفياً، بل علاقة أبوة، نعم، كانت مغامرة كبيرة وواحدة من الأمور الانتحارية التي تحدثنا عنها.
*ما يحسب لتلك التجربة هو أنها عراقية صرفة.. هل تؤيد الاستعانة بكادر عراقي لصناعة سينما عراقية؟
– هي واحدة من أهم الأشياء التي أفتخر بها، وصدقاً أنها أضافت مصداقية عالية للفيلم تحسها داخل كل لقطة، لأن كل الفريق كان عراقياً ويعمل بعراقية مطلقة، نعم، أنا مع الاستعانة بكادر عراقي لصناعة السينما على الرغم من قلة الخبرات، لكن بإمكانه أن يصنع شيئاً. أعتقد أن العائق الوحيد أمام عدم الاستعانة بكادر عراقي هو عدم وجود عرف سينمائي، وهذا بسبب قلة تجربتنا في العراق، هناك بروتوكولات معينة تحدث أثناء التصوير، مكان وقوف مدير التصوير ومساعد المصور وطريقة حمل الكاميرا، وظيفة كل فرد وعلاقته بالآخرين.. كل هذه الأعراف السينمائية تكتسب بالخبرة والصناعة.
*وما الذي يمنع من صناعة سينما عراقية؟
– نحن نعيش أزمة كبيرة بدأت ملامحها في ثمانينيات القرن الماضي حين قامت الحكومة آنذاك بسن قوانين احتكار السينما وجعلها تخدم أجندة الحروب التي قادها النظام آنذاك، لذلك فقد الجمهور العراقي ثقته بالشاشة الكبيرة. وفي تسعينيات القرن الماضي اندثرت السينما، صناعة ومشاهدة، إذ لم تعد صالات السينما تستقبل روادها كما كانت. ما يمنع صناعة سينما عراقية هو عدم الاستقرار السياسي، وهذا بالتالي يؤثر على الثقافة العراقية، ومنها السينما، فضلاً عن تعامل الحكومات السابقة مع وزارة الثقافة وكأنها وزارة هامشية، كما أن قوانين فترة الثمانينيات مازالت تشكل عائقاً كبيراً، منها محاولة ربط دائرة السينما والمسرح بوزارة الثقافة، إذ لا يمكن ربط تلك المؤسسات الثقافية وجعلها مثل أية مؤسسة أخرى، بل يجب أن تكون السينما مستقلة تماماً، مع ضرورة إنشاء صندوق لدعم قطاع السينما في العراق.
*أنت دائم السؤال، بل إنك تغوص في بحر من الأسئلة، برأيك إذا كانت السينما واقعية هل ستكون أكثر قرباً من المجتمع وأسئلته؟
-أنا أفصل دائماً ما بين السينما العالمية والسينما في الشرق الأوسط، والعراق على وجه الخصوص، المشاهدة تحتاج إلى وعي كبير لفهم ما يدور في الصورة، من هذا الباب أعتقد أننا – كمشاهدين – مازلنا نعاني من الأمية البصرية المطلقة، الأفلام تقسم إلى: الفيلم الوثائقي الذي ينتمي إلى الواقع، والفيلم الروائي الذي ينتمي إلى مخيلة الكاتب، وبالتالي هو من وحي صنّاع الفيلم أنفسهم، مستعيراً أدوات تنتمي إلى الواقع، لا أعتقد أن لواقعية الفيلم أهمية. على سبيل المثال أفلام حرب النجوم وأفلام الفنتازيا، كما أن ما يحرك المجتمع ويجعله قريباً من المادة البصرية هو نجاح الفيلم في تحريك مشاعر الجمهور وطرح أسئلة في قضايا تخص المشاهد، وكونه يحمل أفكاراً كبيرة. المهم أن تكون هناك معالجة إنسانية، وهذا دليل تعاطف الجمهور الغربي مع أحداث (جنائن معلقة).
*في العراق حكايا لا تنتهي، يحتاج سردها إلى أعمال كثيرة، بعضهم يحبذ مغادرة هذه المنطقة ونسيان الماضي؟
– من المستحيل مغادرة هذه المنطقة، نحن العراقيين فشلنا فشلاً ذريعاً في أرشفة تجربتنا بالكامل منذ خلق أول حكومة عراقية في العشرينيات حتى اليوم. أنا كنت في عمان حين عرض الفيلم، وكنت أشاهد صور النظام المقبور في شوارع عمان، وهم لا يتحملون الذنب، إنما نحن من فشلنا في صناعة آرشيف بصري يظهر الحقائق ويجرم النظام السابق، وهذا الفشل تتحمله مؤسسات الدولة الثقافية والسينمائية التي لم تستطيع أن تصنع تجربة سينمائية تقدمها لهذا الجيل لكي يفهم ما حصل قبل 2003، كل تجارب الشعوب تحولت إلى أعمال سينمائية، وهذا حق طبيعي، في النهاية يجب أن تخلق ذاكرة، والشعوب التي لا تمتلك ذاكرة لا يمكن الوقوف عندها. إن نسيان الماضي خطأ كبير، لذا يجب أن نتعلم الدروس والعبر من الماضي، وماضينا زاخر بتلك الأحداث والدروس والعبر.