محسن العكيلي
منذ القيثارة الأولى، والعود الأول، في مملكة العشق السومري، كانت الخطوة الأولى في رحلة الوجع الأبدي، تراتيل وغناء بقايا نبوءات الحزن والفرح والأوجاع، حين تستمع إليها تجد نفسك منصهراً في تفاصيلها.
غناء مثل طائر سومري يحلق فوق جبين الغيوم، ينساب على صفحة المساء الممتدة على ضفاف الأهوار. أنين يسافر في شرايين القلب ويطير فوق جرح النعاس، ليستقر على هضبة الروح، يتوغل في مساراتها، يحلق بها إلى عوالم أخرى، في ليل البنفسج والطيور الطايرة والريل وحمد وياحريمة، ألحان تنتقل من شجن إلى شجن، غناء مثل نهر ذكريات متدفق وحكايات غرام لا تنتهي، وحيداً يعانق الليل والأرض، حلم ضرير على امتداد الضوء، يباركه الفرح والحزن على قيثارة الإبداع.
الكنطرة بعيدة
كوكب حمزة، اسم وظاهرة لافتة في الموسيقى العربية، منذ بواكير سنينه الأولى ولع بالموسيقى. ذات مرّة كان برفقة والدته في مدينة النجف، وأصر على أن يقتني آلة الناي من أحد الباعة. تعلم العزف وأصبح شغفه الأول. في ستينيات القرن الماضي ولج عالم الموسيقى ودخل معهد الفنون الجميلة. وحين عمل مدرساً للموسيقى في البصرة، تأثر بالتنوع الموسيقي في تلك المحافظة.
حاول حمزة أن يخرج عن الروتين السائد في الأغنية العراقية، فلحن أغنية (يانجمة) لحسين نعمة، الشاب الذي يظهر لأول مرة، وهي من كلمات كاظم الركابي. بعدها أعلن ولادة أغان كبيرة ومهمة غيرت مسار الأغنية في العراق، مثل: (يا طيور الطايرة) و(أفيش بروج الحنية) لسعدون جابر، وأغنية (شوق الحمام) لفاضل عواد، وأغنية (تانيني) لفؤاد سالم. مر كوكب في محطات عدة، سياسية وثقافية، واعتقل أكثر من مرة، حتى قرر الهجرة من العراق. وربما كانت أغنيتا (الكنطرة بعيدة) و(محطات) قصتي واقع حال الملحن كوكب حمزة، حتى وافاه الأجل في نيسان 2024.
ليل البنفسج
طالب القره غولي.. اسم آخر سطع في سماء الأغنيتين العراقية والعربية، إذ لا يمكن أن نتحدث عن الموسيقى في العراق دون أن نمرّ على القره غولي كاسم مميز. تميزت إلحان طالب بالتنوع الموسيقي والجمل اللحنية والتنقل بين المقامات، وهذا النوع كان غائباً عن الأغنية العراقية. فضلاً عن إضافة المقدمات الموسيقية. فترتا السبعينيات والثمانينيات كانتا زاخرتين بألحان القره غولي، حين كان في قمة إبداعه الفني، وقدم أعمالاً جميلة، مثل رائعة (ليل البنفسج)، التي تعد علامة فارقة في الغناء العراقي. وأغاني أخرى مثل (هذاك انت) و (اعزاز) و (جذاب) و(حاسبينك)، والعديد من الأغاني التي أداها كثير من المطربين. شكل مع الشاعر زامل سعيد فتاح ثنائياً رائعاً قدم أعمالاً جميلة أغنت المكتبة الموسيقية.
غريبة الروح
بيئة كربلاء وطقوسها، كان لهما الأثر الواضح في نمو الحس الموسيقي لدى محسن فرحان، الذي تأثر كثيراً بما يسمعه في المواكب الحسينية، وتعايش مع تلك الأجواء لتشكل في داخله خزيناً موسيقياً انعكس في ألحان شجية وأغنيات رائعة. انضم فرحان إلى إحدى الفرق الموسيقية في كربلاء، تعلم العزف على آلتي العود والأوكورديون، وأتقن التدوين الموسيقي (النوتة)، ليدخل معهد الفنون الجميلة.
بدأت شهرة محسن فرحان تذيع بين الأوساط الموسيقية من خلال أغنية (غريبة الروح)، التي كانت جواز سفره إلى قلوب المستمعين، لتبدأ بعدها رحلة اللحن، الذي أبدع فيه من خلال العديد من الأغاني، منها (ما بيه اعوفن هلي) و(كوم انثر الهيل) و(فاركونة) و(خسارة يازمن) و(بيّن علي الكبر)، وغيرها لحسين نعمة، و(عيني عيني) و(لتصدك اليحجون) و(دمعه وكحل) و(البارحة) لسعدون جابر. و(آه يا زماني) و(يكولون غني بفرح) و(لوغيمت دنياي) و(شكول عليك) و(زمان) و(يافيض) لقحطان العطار. و(يا هوى الهاب) و (تردون) لحميد منصور. وأغان أخرى لصباح السهل وفؤاد سالم وسعاد عبد الله وأزهار الصباح وأنوار عبد الوهاب وكريم حسين.
محسن فرحان، مع ما يحمله من إرث غنائي وتاريخ من الإبداع والعطاء، اكتفى بالصمت في سنينه الأخيرة، ربما هي صرخة احتجاج على كل ما يجري.. ولسان حاله يقول: غريبة الروح.
الريل وحمد
محمد جواد أموري، الذي أسس لمرحلة غنائية مهمة، التي أطلق عليها الفترة الذهبية للأغنية العراقية، اكتشف في تلك الفترة الكثير من الأصوات الغنائية، منهم ياس خضر وسعدي الحلي وكمال محمد وأنوار عبد الوهاب ورياض أحمد وصباح السهل. رحلته، التي امتدت إلى نصف قرن، أمضاها في البحث عن الأصوات الغنائية. ألحانه انبثقت من تربة العراق، ومازال صداها إلى يومنا هذا، لما تتضمنه من عبق العاطفة والمشاعر هي صدى تلك الأيام المعطرة بالحنين، فكانت ألحانه تسافر مع (الريل وحمد) و(فخاتي الصبح)، ذلك المبحر في عالم النغم، اختزلت الذاكرة كثيراً من ألحانه مثل (الريل وحمد) و(جاوبني) و(ياحريمة) و(عد وانا عد)، فضلاً عن أغنية (ياحبيبي) للمطرب الكويتي الراحل عوض دوخي. أموري اختط لنفسه أسلوباً خاصاً سيبقى مؤثراً، وسيظل منجزه إرثاً جميلاً رسم ملامح الفترة السبعينية.