جمال العتّابي/
حين يعمد الفنان إلى الكشف عن الجوهر الفرد في أعماق الأشياء، فهو إنما يقصد البحث عن صفات الخلود في تلك الأشياء، ومعنى ذلك أنه يسعى إلى تأكيد الصفات الدائمة من خلال العملية الفنية، كما يسعى إلى إسقاط كثير من التفاصيل التي لا تخدم غرضه الفني، ولا توصله إلى اقتناص لحظات الإيماض في ولادة الخلود.
بين الفنان والمتلقي حوار غير متعادل حول ماهية الأثر الفني، ينطلق من موقع كل منهما إزاء ذلك الأثر، بعداً أو قرباً، قبولاً أم انغلاقاً، ولعل ذلك يعود إلى درجة ثقافة كل منهما، وامتلاكه لغة الفن، وإحساسه العميق بقدراتها التعبيرية، وخياله الواسع في قراءة تلك اللغة وما ورائياتها.
المتلقي العابر كثيراً ما يسيء فهم العمل الفني، لأنه يبحث عن (الفوتوغرافية) فيه، وهو أمر يتجافى مع روح الفن ورموزه ومعانيه، لأنه يجرده من قواه الروحية، كما يفقده سحره، وقدراته الإيمائية ويجعله في مرتبة (الإعلان).
كلمات (ماتيس) تنير هذه الحقيقة وتمنحها لآلئ وبريقاً:
“إن الكاميرا كانت منحة كبيرة للفنانين، لأنها أعفتهم من ضرورة النقل الحرفي للطبيعة، أي أنها جعلتهم في غير حاجة للتسابق في تأدية وظيفتها، المهم أن ينصرفوا إلى البحث في طبيعة الفن ذاته بدلاً من الخوض في الشكليات.”
إن الفنان يستخدم الطبيعة، لا غاية في حد ذاتها، إنما وسيلة لكشف الدائم من العلاقات التي تربط الأعماق بالظواهر، لذا فهو لا يعُنى بالمرائي الشكلية إلا بمقدار ما تسعفه في إضفاء صفة الديمومة على عمله الفني، وإغنائه بالخبرات والمعاني والرموز ليمنح المتلقي قدراً من الإثارة للإحساس فيه والانفعال بمعانيه.
إن تجربة الفنان تبدأ عادة من نقطة الإشارة بالعالم المرئي، وهكذا تتجمع في مختبره الداخلي كل الطاقات التعبيرية القادرة على أداء الفعل، لتفرغ في النهاية بالتشكيل الذي يمثل شخصية الفنان وأسلوبه.
وعلى أساس من هذه النظرة التحليلية، يصبح من الصعب على المتلقي فهم العمل الفني إذا لم يكن قد اكتسب ثقافة معادلة أو، في الأقل، عاش إلى درجة ما في محيط الخبرة التي مرّ بها الفنان حتى يستطيع الوصول إلى درجة الاستمتاع أو الانفعال بما أبدعه ذلك الفنان.
إن عملية الرؤية الجمالية، في الواقع، تعتمد على مجموعة العادات والاتجاهات والتقاليد والخبرات التي كوّنها المتلقي واستفاد من تفاعلها. فنحن إذا أردنا أن نحصل على رؤية سليمة، وجب علينا أن نحصل على مستوى ثقافي وذوقي ناضج، ولكي نستطيع أن نؤلف بين ذواتنا وبين اللوحة أو القصيدة أو السمفونية أو التمثال، لابد لنا أن نعيد تشكيل خبراتنا، قدر المستطاع، بشكل يتوازن وبدائع الفن. ذلك لأن الرؤية الفنية لا تستدعي كل قوانا العقلية والوجدانية حسب، بل تتطلب توجيه هذه القوى نحو فهم علمي – وجداني للفن وإدراك عميق لعلاقاته بالطبيعة الإنسانية. ذلك لأن الفنان يضيء لنا العالم المرئي، مثلما يفعل العالِم في إنارة دروب الحياة برغم اختلاف وسائلهما في الوصول إلى الهدف.
والحقيقة أن ما جعل من دراسة العلوم منهجاً لتقدم الحياة هي الطريقة العلمية ذاتها، وبدون طريقة معادلة تعلمنا كيف نتواصل مع الفنون ونعيش في مناهجها، فإن دراسة الفن تصبح غير ذات جدوى.
هنا يبرز دور الخبرة الجمالية لدى المتلقي ليحسم الموقف لصالح الأثر الفني أو العكس، وهو دور يمثل الاستجابة الانفعالية بدرجات لأي شكلٍ منظور، أو أي موقف خارجي. ومن الجانب الآخر، يعتمد هذا الدور على مقدار حساسية الفنان التي توصلنا إلى مرتبة الشعور بالقيمة الجمالية للمنظور الحياتي في الطبيعة وما وراء الأشياء. وهكذا تصبح رؤيته ذات قيمة خاصة لما لها من صلة وطيدة بالحدس والانفعال وتوتر الداخل، سلباً أم إيجاباً، ومضاً أو إنارة، انجذاباً وجدانياً أو شعوراً بالصدمة.