دبي – زياد جسام/
يتداخل الفن التشكيلي -عموماً- مع الموسيقى، بكل أجناسه التعبيرية المختلفة. فالفنان التشكيلي، سواء أكان نحاتاً أم رساماً، يشكل مفرداته بحساسية عالية لا تختلف عن مقطوعة موسيقية متكاملة.
من الممكن أن يكون العمل التشكيلي مقتبساً من مقطوعة موسيقية، أو العكس، لتكوين علاقة جديدة قد تكتسب حضوراً بين التون الصوتي أو التون اللوني، اللذين يعتمدان على براعة الفنان الذي يشكلهما لينتج عنصراً جمالياً.
الموسيقى تولد الصــور وتكشــف عن تفاصيلها، كما أن لها القدرة على محاكاة أصوات الطبيعة، وفي نفس الوقت فإن للعمل التشكيلي القدرة على تصوير الأحاسيس والحركة، وهذا يعود الــى الخيــال بالنسبـة للمبدع في كل فن، وقدرة المبدعين على توظيف الخيال في صناعة فنهم.
مستوى التفاعل
الفنان نصير شمّة، واحد من بين المبدعين القلائل الذين يجمعون بين هذين الاتجاهين في الفن، والجميع يعلمون أن العلاقة بين الموسيقى والتشكيل ليست وليدة اليوم، بيد أن الفنان شمة انتبه الى تأثيرها المتبادل بحكم عمله في المجالين، الذي يسهم في رفع المستوى الجمالي ومستوى التلقي لدى المتفاعلين مع أي من المجالين. ومن خلال هذه الفكرة، أدرك شمة أن لكل عمل إبداعي “إيقاع”، وهذا الإيقاع بالنسبة للموسيقى هو الأساس، سواء أكان مقطوعة كلاسيكية أو تأليفاً حديثاً، ليعبّر عن صورة متخيلة أو واقعية جميلة. أما الايقاع الثاني، التشكيلي، سواء أكان لوحة أم عملاً نحتياً أو تركيباً، فهو إيقاع بصري، تغير عبر التاريخ وتطور في تركيباته وبنائيته، أحياناً يبدو غير مباشر ومستعصياً على الفهم، لكنه سرعان ما ينطبع في ذاكرة من يشاهده، ويساعده ليدله على عوالمه ويكشف أسراره.
مقاربات تصويرية
لاشك في أن الإيقاعين لهما قراءات متعددة، ويساعدنا تاريخ النقد الفني ومقارباته على فهم الصورة التشكيلية عندما ترافقها موسيقى تصويرية، وهذا بالكاد يتكرر مع النص البصري الذي شهد تحولات في علاقته وتقنياته واختيار موضوعاته، فكثيراً ما عرفت أعمال تشكيلية، نحتية كانت أم مرسومة بالألوان، بأنها عبارة عن مقطوعة موسيقية، قام الفنان بإعادة إنتاجها بصرياً، وبدت للجمهور وكأنها أقرب الى الموسيقى والصورة الحسية، اذ تأخذ أصداء واسعة على المستوى الشعبي، بل وحتى النخبوي، لكونها أنتجت بطريقة جمعت الموسيقى مع التقنية والشكل، وتحولت من متخيل الى شيء ملموس..
وهنا بدأ الفنان نصير شمة تجاربه التشكيلية الجريئة، التي دخل اليها من باب الحداثة وما بعدها، فقد أنتج أعمالاً جدارية، لا أريد أن أسميها لوحات رسم، لكونها لوحات تركيبية حديثة تداخل في إنتاجها اللون والخشب والخامات المختلفة الأخرى.
خامات مختلفة
جرى عرض بعض هذه الأعمال للمرة الأولى في (كالري الاتحاد) في أبو ظبي، كانت من ضمن معرض فني مشترك لمجموعة فنانين، استوقفت هذه الأعمال الجمهور، وأثارت الفضول لديهم، والتساؤل عن الخامات المستخدمة، وكان الجواب من قبل الفنان شمة، بكل بساطة، أن “خامتي في إنتاج هذه الأعمال هي نشارة الخشب!” لكن المفارقة أن النشارة المستخدمة هي ليست أية نشارة، إذ إنها مأخوذة من نشارة خشب صناعة الأعواد التي يشاهدها يومياً في بيت العود. وهنا أيضاً نجد علاقة جديدة يمكن لي أن أسميها “علاقة روحية” بين آلة العود الموسيقية ولوحة الفنان شمة.. أرى أن هذا المبدع الموسيقي لديه رؤية جديدة للوحة التشكيلية، وهو مايزال منشغلاً في البحث والتطوير، ولا شك في أنه سوف ينال مبتغاه، لأنه فنان ذو حس عال وأفكار نيرة. قد تأخذ اللوحة الفنية التي ينتجها شمة وقتاً أطول من تأليف قطعة موسيقية طويلة، إذ إن مشغل الرسم، ولاسيما الحديث، يحتاج الى أن يتحول فيه الفنان الى عامل تقني يستغل كل صغيرة وكبيرة، ويحفر ويحذف ويقتنص العفويات، وربما بعد إنجاز العمل بالكامل لا يقتنع به، ليعاود مرة أخرى وأخرى، في مخاض عسير، الى أن تولد لوحة جميلة يعتز بها الفنان، كونها خرجت من رحم أفكاره وتقنياته.