جلسة على خشبة المسرح السرياني.

ضحى مجيد سعيد

المسرح، بشكل عام، هو فكر كوني عابر لكل الحدود الجغرافية وثقافتها، غير أن محاكاة هموم ومشكلات الإنسان تجري في بيئة تشترك في الكلية وتختلف في الجزئية، بمعنى أن مرتكزات المسرح هي ذاتها في أي عرض، ولكن بسب التفاصيل الفردية التي تمتاز بها كل ثقافة ظهرت الحاجة إلى التصنيف بحسب لغة العرض المسرحي.

هذا ما يتجلى به المسرح السرياني، إذ ينفرد بأنه يحاكي هموم الإنسان الكبرى عبر الجزء، وبسبب هذه الخصوصية وجدنا من الأهمية أن نبحث دوره الريادي في الثقافة العراقية الحديثة ونسلط الضوء عليه وتعريف قراء “الشبكة العراقية” بهذا المسرح.
مسرح ريادي
د. سافرة ناجي، ناقدةٌ في الأدب المسرحي، وأستاذةٌ في كلية الفنون الجميلة، حدثتنا عن المسرح السرياني وآثاره قائلة: “المسرح السرياني في العراق مسرح ريادي، كان له السبق في تقديم العروض المسرحية، وامتاز بأنه جمع ما بين البعدين التعليمي والجمالي في تقديم العروض المسرحية، ومن أهم ما رسخه في خريطة المشهد المسرحي العربي دحض الفكرة القائلة إن المسرحين العراقي والعربي عرفا الثقافة المسرحية عن طريق المبتعثين العرب إلى أوربا، وفي مقدمتهم السوري أبو خليل القباني. ما يؤكد ذلك أنه كان لديه موسم مسرحي في تقديم العروض بزمن طويل على عروض القباني، إذ قدم مسرحية (لطيف وخوشابا) عام ١٨٩٣، التي ترجمها نعوم سحار، وكذلك قدم عروضاً باللغة السريانية عام ١٩١٢، منها مسرحية (الملكة إستر) التي أعدها المطران اسطيفان، وعليه فهو رائد الحركة المسرحية في العالم العربي دون منازع.”
وأضافت: “ومما ينفرد به أيضاً أنه لعب دوراً تنويرياً في الثقافة العراقية الحديثة وجعل من المسرح فضاء تعليم وإرشاد، إذ قدم كل عروضه في المدارس، ناهيك عن أنه مارس دوره التنويري والتعلمي في إرساء ثقافة عراقية أصيلة تنتمي إلى هموم وحاجات هذا الوطن.”
طقوس الكنائس
لتسليط الضوء أكثر على تاريخ وواقع المسرح السرياني اليوم، تحدثنا إلى الكاتب والمخرج والممثل لطيف نعمان سياوش، وهو أحد المساهمين في الحركة المسرحية السريانية، أحيل إلى التقاعد بصفة مخرج، من وزارة الثقافة في إقليم كردستان، إذ قال: إن “تاريخ المسرح السرياني يلتقي مع تاريخ المسرح العراقي، وكلاهما امتداد لطقوس الكنائس، ولاسيما القداس والجمعة الحزينة، وتوجد أعياد مهمة في تاريخنا فيها طقوس مسرحية كنا نمارسها مذ كنا صغاراً في كركوك، توارثناها عن آبائنا وأجدادنا منذ مئات وربما آلاف السنين، والبحث فيها مطول يحتاج إلى دراسة مُسببة ومستفيضة.”
يضيف أن “طقوس (صومكا)، أي التبشير بقدوم موسم الصوم، الذي يسبق العيد، إذ تخرج فرق مسرحية من الشباب ومعهم الجوقة ويضعون المكياج على وجوههم ويرتدون ملابس الشخصيات التي يمثلونها، ثم يطرقون الأبواب ويقدمون عروضهم، ويكرمهم صاحب البيت بما يجود به.. الخ، هذه الطقوس هي بدايات الحركة المسرحية، وعلينا ألا ننسى دعاء الاستقساء (ئي ياران) – وترجمتها (يا أصحابي) الذي تحييه فرق مسرحية باللغة الكردية وهي تُنادي ربها بالدعوات لسقوط المطر وما إلى ذلك، ولا يفوتني أن أذكر أيضاً أن طقوس عاشوراء هي كذلك واحدة من أهم أسباب نشوء الحركة المسرحية في بلادنا، سواءً كانت عربية أو غيرها.”
يسترسل: “ونحن نتحدث بهذا الصدد، علينا أن نُقر ونعترف بفضل الحركات التبشيرية، وكونها النواة الحقيقية لنشوء الحركة المسرحية العراقية، وهكذا الحال بالنسبة إلى الحكواتي الذي كان يقرأ القصص في المقاهي بشيء من التمثيل، كقصة أبي زيد الهلالي، وعنترة بن شداد، وخيال المآته، والقرقوز وغيرها.”
سبات موجع
وبيّن (سياوش) أن “الدعم الذي تحظى به مجمل الحركات الفنية والثقافية يقدم من قبل الحكومة، وتحديداً من قبل وزارة الثقافة، كما أن مجمل الحركة المسرحية، سواء في العراق أو كردستانه تشهد فتوراً غير مسبوق، مع أن المسرح السرياني كان ولا يزال جزءاً من المسرحين العراقي والكردستاني، لذا يصيبه ما يصيب هذين المسرحين.”
أردف قائلاً: “أنا على الصعيد الشخصي بذلت المستحيل مع نخبة من مثقفي منطقة عينكاوا في أربيل من أجل تشكيل فرقة (شمشا) للتمثيل عام 2000، وقدمت هذه الفرقة العديد من الأعمال المسرحية المحلية والعالمية، لكن للأسف الشديد، بعد انقطاع دعم وزارة الثقافة عنها بحكم الظرف الاقتصادي الاستثنائي، شهدت سباتاً موجعاً، نأمل ألا يطول هذا السبات، إذ إن جملة من الأسباب أدت إلى خمول المسرح السرياني، أبرزها تشتت أعداد مهمة من المسرحيين السريان في أرجاء المعمورة، فضلاً عن انشغالهم بالمسرحين العربي والكردي، وانصراف عدد منهم لشؤون التدريس في المعاهد والكليات ووجود أعداد مهمة منهم اعتزلوا العمل المسرحي، إضافة إلى عدم تناغم معظم المسرحيين بعضهم مع بعض.”
يستكمل: إن “الملاحظات على المسرح السرياني كثيرة وعطاءاته قليلة، إذ يوجد لدينا مسرحيون مبدعون وطاقات جيدة، لكنها للأسف الشديد ليست متضافرة، إنما مشتتة ومبعثرة، ولعل هذا السبب بالذات أدى ويؤدي إلى ألا يصل مسرحنا المأمول إلى ما يجب الوصول إليه.”
في ما يتعلق بالعقبات التي تواجه المسرح السرياني قال سياوش: إن “عقبات المسرح السرياني تكاد تلتقي مع عقبات المسرحين الكردي والعربي، أبرزها قلة الدعم المالي وربما انعدامه، فضلاً عن تدخل السياسة والأحزاب في شؤون المسرح والفن والثقافة وتسييس أجندتها وتقزيمها عندما ترتمي في أحضان السياسة.”
وختم كلامه بالقول: إن “فن المسرح عمل جماعي يتطلب تضافر الجهود وتوحيدها وغسل النوايا وعشق المسرح والقراءة المستمرة والمتابعة، وبغياب هذه الأمور تصاب الحركة المسرحية بشرخ لا تحمد عقباه.”
فرقة شمشا
بدورها، حدثتنا (أفين باهر هرمز)، رئيسة فرقة شمشا للتمثيل عن فرقتها المسرحية قائلة: “تأسست فرقة شمشا للتمثيل عام 2000 في عينكاوه، وقدمت العديد من الأعمال المسرحية والمحلية والعالمية، لكنها للأسف توقفت عن العمل لمدة زمنية طويلة تجاوزت الثماني سنوات بحكم الظروف الاقتصادية. وفي العام 2003 جرت إعادة تنشيطها من قبل المؤسسين للفرقة، وعندما فكرنا أن تباشر الفرقة مرة ثانية كان معنا الأستاذ صباح هرمز شاني، وكل خطوة من خطواتنا كانت معنا مجموعة شباب أعضاء في الهيئة الإدارية والإدارة العامة والسابقة للفرقة.”
وأوضحت: “إن فرقة شمشا للتمثيل ليست فقط للمسرح وإنما أيضاً للأفلام القصيرة، يعني أن باستطاعتنا القول إنها فرقة فنون بشكل عام، إذ لدينا الفنون التشكيلية، ومنها المسرح والأفلام. تتكون الفرقة من 50 شخصاً، ومن أبرز أعمالها من اليوم الأول لتسلمي الإدارة مسرحيتا (طوبية) و (سواق خرايا). تمكنا خلال سنة أن نقدم مسرحيتين شاركتا في مهرجان المسرح السرياني، وكانت مسرحية (طوبية) من إخراج لطيف نعمان، ومسرحية (سواق خرايا) من إخراج دكتور بيار لويس.”
أضافت: “بالنسبة إلى اللغة في المسرح، فإن القضية حاسمة، فبلغة المسرح أن النص لم يكتب ليقرأ بالدرجة الأولى، بل ليصاغ بشكل مرئي تمثيلي أمام الجمهور. لغة المسرح لم تكن يوماً حاجزاً أو سبباً في عدم عرض المسرحية باللغة المختلفة، في المسرح المرئي يمكن للجمهور فهم الفكرة وتوصيل الرسالة الهادفة من قبل الممثلين بمساعدة الديكور والإنارة والموسيقى.. إلى آخره، كما ينبغي أن تتسم لغة المسرح بأن تكون قادرة على تحقيق الإيصال المباشر بالمعاني للمتلقين والجمهور، بالتأكيد كان هناك صدى إيجابي للتمثيل في اللغة السريانية، أما بالنسبة لأنواع العروض المسرحية التي نقدمها فليس هناك نوع محدد، مثلاً مسرحية (سواق خرايا) كانت تعبر عن فاجعة عرس بغداد، أما مسرحية (الطوبية) فكانت كوميديا للترفيه عن الجمهور.”
إحياء التراث
ومن أجل الغوص أكثر في تفاصيل المسرح السرياني، حاورنا الفنان المسرحي والمخرج ديلان خليل خوراني، الذي حدثنا قائلاً: “النتاجات المسرحية السريانية على صعيد العراق كثيرة، وكانت تمتاز من خلال مواضيعها وثقافتها واستعمال الأزياء والأكسسوارات التي تعود إلى التاريخ السرياني واللهجات التي يتكلمون بها، ومن مميزات المسرح السرياني إحياء التراث والتقليد والتاريخ.”
لم يختلف رأي ديلان عن راي سياوش فيما يتعلق بالمسببات التي أدت إلى ضعف وخمول المسرح السرياني، لكن فيما يتعلق بتاريخ هذا المسرح، فإن هناك تفاوتاً في الآراء، إذ قال ديلان: إن “انبعاث المسرح كان من الكنيسة، ولكن إذا حددناه بشكل أكاديمي فإن انبعاثه كان في ثمانينيات القرن الماضي، أما إذا حددناه مع تأسيس الفرق المسرحية فقد جرى تأسيس أول فرقة مسرحية سريانية في مدينة أربيل رسمياً عام 2001، وهي (فرقة شمشا للتمثيل)، لكن كانت هناك مجموعة من الشباب يقومون بعروض مسرحية سريانية تحت أسماء مختلفة، لكنهم لم يكونوا فرقاً مسرحية سريانية، وحسب معرفتي الشخصية عُرضت (70 – 80) مسرحية سريانية في مدينة أربيل مع مجموعة من الأفلام باللغة السريانية، وكانت أنواعاً مختلفة، شملت جميع مذاهب المسرح منها (التاريخية، والدينية، والرمزية) وصولًا الى العبثية.”
وتساءل ديلان: “إن أصول المنطقة تأسست على وجود الكلدان والسريان والآشوريين، فكيف لا يكون لهم مسرح وفن يعكس تأريخ وثقافة هذا الشعب العريق؟”
وختم كلامه بأن “المسرح السرياني احتضن جميع الفنون، ولم يقتصر على التمثيل فقط، بل كان داعماً لجميع الفنون، وكان مصدر انطلاق للإمكانيات الشابة في كل اختصاصات الفن.”