حسين سعيدة مصقولة..بطعم الحنظل!

د.سلمان كيوش/
آمَنَ حسين سعيدة، كما لم يؤمنْ بشيءٍ آخرَ، أن الجرحَ مَكمنُ الإبداعِ وأقصرُ الطرقِ إلى حيازتِه، وأن لا معنى للغناءِ إن لم يكن صنوا للأنينِ ووجها آخرَ له، لذا وصلَ بفجيعتِه حدَّ الغناءِ!
لأنه وُلد في السهلِ الجنوبيِّ المنبسطِ، ربما تحتَ نخلةٍ أو بجانب شجيرةَ طَحمةِ جافّةٍ أو فوقَ كومةِ «بوه» غدت الألفةُ أوضحَ ما يميّزهُ، فمعه لا تحتاجُ لضبطِ لغتكَ أو هندامكَ. لا تحتاجُ لأن تودعَ صوتَك، وأنتَ تحدّثه، تهذيبا زائفا، فحسين سعيدة يعرفُ كيفَ يجبركَ على البقاءِ على طبيعتكَ مهما كانت، وستجدُ لذّةً أنكَ معه كما لو كنتَ وحدَكَ في حلمٍ من صنعِكَ. يبدو لكَ وكأنّه امتدادٌ للفقرِ والخرابِ واللونِ الأملحِ الذي يجلّلُ الجنوبَ الزاحفَ شمالاً ليستقرَّ في «المدينة». أخذَ من الدهلةِ سهولتها، ومن البردي غضاضتَه، ومن انكسارِ الناسِ، وتواضعهم المجاورِ للضعةِ، انسحاقَه.
لمزاجِه رقّةُ الزجاجِ وطواعيةُ الطينِ الحريّ، ومع هذا فهو بارعٌ في إخفاءِ حرائقِ روحه المزمجرةِ ولوعتِها في حضورِ نكتتِه المتهكّمةِ أبدا. فالنكتةُ لديه وجهٌ للبكاءِ بعدَ أن أتقنَ الغناءَ، الوجهَ الآخرَ الأوضحَ له. موّزعٌ بين نجوميّةٍ ساطعةٍ في أعراسِ «المدينةِ» وهو يدنو من المايك ليزفرَ أنينا مموسقا لأبوذياتٍ مذبوحةٍ في محاريبِ القهرِ الذي تعرفُه نفوسُ الجنوبيين وتدمنه، وبين «عَربانةٍ» يدفعها ليبيعَ الحلوى أمامَ سينما الرافدين وفضاءاتِ قطاعِ 22.في مدينة الثورة
ضئيلٌ كبرديّةٍ منفردةٍ في چيحةٍ مالحةٍ. أسمرُ كحبّةِ قهوةٍ في مستهلِّ تقلّبِها على نارٍ هادئةٍ. نحيفٌ هشٌّ كعودِ بوه. لا يفارقه الإحساسُ بأنّه منفردٌ ومتفرّدٌ، وأنّ أُنْسَه كبيرٌ بعظمِ الهدهدِ الذي يسكنه، مع ما فيه من لوعةِ اغتراب. ما يعوزُه وأخفقَ فيه هو مجابهةُ الحياةِ الصعبةِ التي تشدُّه إلى روتينيّتها وبؤسِ تفاصيلها الخاويةِ. لا يعرفُ التلفيقَ أو الزيفَ لانّه لا يحتاجهما، يشبهُ في ذلك أي ذُهانيّ مجنونٍ، فقد جاهدَ ليعيشَ كما يريدُ، لا كما يريدُ الحشدُ المجتمعيّ. ورثَ عن سالم چلّاب «أبيه» وسعيدة جوهر «أمّه» الجلبابَ البيولوجيَّ فقط، فقد تربّي، لسببٍ ما، عند «السادة» في طفولته، ثم التحقَ بمضايفِ شيوخِ بيت منشد الذين عاملوه واحدا منهم، ولاسيما الشيخ خزعل العريبي. لكنّ الثورةَ التي لم تخمدْ في روحِه شدّته إليها، فلم يزده طهرُ السادةِ ورخاءُ الشيوخِ إلا إحساسا بمزيدٍ من اللوعةِ بسببِ التقاطعِ الكبيرِ بين ذهانيّةِ الفنّانِ المتمرّدةِ التي تسكنه ونمطيّةِ الحياةِ التي يريدها الآخرون له، فآوى إلى ملاذِه الآمنِ في الخمرِ الذي شربَ منه أكثرَ مما شربَ من الماءِ. أما سيّدةُ المتعِ لدى حسين فهي حين يطرقُ العاشقون وهم يتمايلون طربا تحت سياطِ اللذّةِ القصوى التي يجلدهم بها صوتُه المختصرِ لشجنِ الجنوبِ وعذاباتِه السرمديّةِ.
هل كان يمكن أن يستمرَّ باسمٍ آخرَ؟ هل يمكنُ للذاكرةِ أن تقبلَه باسمٍ آخرَ غير «سعيدة» التي لازمته كوشمٍ غائرٍ، فوقْعُ الاسمِ يبدو لي، ولغيري، قدرا أدنى للحتمِ منه للاختيارِ؟ وحدَه حسين سعيدة مَن شذَّ عن شيوعِ الذكورةِ الاسميّةِ الطاغيةِ فأنّثَ اسمَه، أو أُنّثَ له، ربما ليريحَ الملائكةَ من عناءِ البحثِ عن أسماءِ آبائنا يومَ النداءِ الأكبرِ، وربما لأنّه عدَّ سعيدةَ صاحبةَ الذنبِ الكبيرِ والخطأِ الأوّلِ الجسيمِ يومَ حَمَلَتْهُ دون أن تستأذنَه، ولأنّها اقترفتْ حماقةَ إنجابِه للضيمِ بلا أدنى ضمانةٍ للسعادةِ، فأبقى على اسمها صليبا يتولّى تذكيرَه، كلَّ حينٍ، بأنّ الوعيَ والصحوَ هما ألدُّ عدوّين.
نسي حسين أشياءَ كثيرةَ في خضمِ الحياةِ، أوّلُها وأهمُّها أنّه معبّأٌ بهمٍّ وجوديٍّ كبيرٍ عليه أن يتجمّلَ ليخفي بَرَمَه به وتذمّره منه، على العكسِ تماما مما يفعلُ المتواطئون مع الحياةِ كلّهم. ولم يتذكّرْ من دنياه غيرَ الرست، الطريقِ الحميمِ لشوغاتِ قلبهِ، والخمرِ. فكانا اللازمةَ التي لم يعرف غيرها. آمَنَ، كما لم يؤمنْ بشيءٍ آخرَ، أن الجرحَ مَكمنُ الإبداعِ وأقصرُ الطرقِ إلى حيازتِه، وألا معنى للغناءِ إن لم يكن صنوا للأنينِ ووجها آخرَ له، لذا وصلَ بفجيعتِه حدَّ الغناءِ! لم يكن كالآخرين لأنّه الشجاعُ الذي لم يولِ حياتَه اهتماما وهي تتفرهدُ أمامَه. ليس كمثله أحدٌ، فهو لا يستغفلُ لحظةَ الوجعِ بالبحثِ عن لذّةٍ طارئةٍ ليهدّئها كما يفعلُ المنساقون مع تيارِ الحياةِ والحريصون على مضغِ «الحامض حلو» أو الهيل ليخفّفوا طعومَ الاشمئزاز على ألسنتهم. يعيشُ كمن لا ينتظرُ من غدِه إلاّ الأسوأَ وتحتَ لهاتِه «مصقولة» حنظل. لا يأبهُ بروحِه وهي تشيطُ على نارِ القرفِ بالحياةِ ومنها.. يخرجُ من وجعٍ لآخرَ واهما، أو متوهّما، أن في الخمرِ ما يضمنُ له ألا يشتعلَ.
آه يا أبو أسمهان، كلُّ ما فيك جميلٌ، ابتداءً من اسمكَ الذي لا يستطيعُ أحدٌ نطقَه إلا شعرَ أنّه على وشكِ البكاءِ على الطريقةِ الجنوبيّةِ. اسم تعبّأَ بالچحلةِ كلّها: بشطوطها وطيورها وماشيتها، بصرايفها ومضايفها، بدهنها الحرِّ وخرّيطِ أهوارها.. أنتَ، وآخرون قليلون على شاكلتكَ، لا تتسلّلُ أخبارُكَ إلى الأسماعِ إلاّ وهي محاطةٌ بأنينِ الخضيري وصياحهِ في مواسمِ ارتحاله. مدهشٌ أنتَ يا ابن سعيدة لأنّكَ تؤجّجُ في الذاكرةِ ما يحرصُ الناسُ على نسيانِه أو تناسيه، ولأنّكَ الماهرُ بتذكيرهم بمواسمِ ارتحالهم هم أيضا. صوتُك عارٍ إلاّ من ورقةِ التوتِ، جادتْ به وفرةُ حزنٍ وفائضُ فجيعةٍ. صوتٌ حارّ برغمِ القشعريرةِ التي يغدقها على جلودِ مستمعيه.
حسين.. هل كان يمكنُ ألّا تغنّي؟ هل كنتَ ستحزنُ كلَّ هذا الحزنِ لو لم تكن العمارة مسقطَ فجيعتِكَ؟ هل كنتَ ستشربُ كلَّ هذا الخمرِ لو لم تكن سعيدة أمّكَ؟ هل كنتَ ستصرُّ على تطويعِ الرست بهذه الطريقةِ الجنائزيّةِ لو كانت الچحلةُ أكثرَ احتفاءً بكَ وبالناسِ وهمومهم؟ هل كان كبدُكَ سيتليّفُ ويتراكمُ الماءُ المَرضيُّ على رئتيكَ لو أنكَ سكنتَ في مكانٍ آخرَ غيرِ قطّاع 28؟ من منكما أجلُّ من الآخرِ وأجملُ منه، أهو حسين المطربُ الذي طوّعَ حنجرتَه لمهمّةِ النعي وحدَه على طريقةِ سعيدة وهي تكابدُ شظفا لا فكاكَ من بؤسِه، أم حسين الممدّدُ على سديّةٍ ماتَ عليها قبلَه كثيرون في مستشفى التويثةِ لأنّ رئتيه علاهما زنجارٌ خشنٌ أثقلَ عليه أنفاسَه، ومع هذا يستغلُّ البرزخَ القصيرَ بين الحياةِ والموتِ ليغنّي بوهنِ المحتضرِ في الوقتِ الأكثرِ من عصيبٍ: أنا المكسور خاطر من الكماط……. ليموتَ بعدها فيبرهنَ، في آخرِ فرصةٍ لإثباتِ الوجودِ، أن الغناءَ قضيةٌ لا تقلُّ شأنا عن السياسةِ والعقائدَ؟.