مقداد عبد الرضا
أحياناً يجتمع كل الزمن في عينين، الإصبع والعين، تضغط بالإصبع على عين صافية، عينك وعين الكاميرا، وبقلب يرتجف تظهر النتائج. تأمل ماذا صنعت تلك العينان لتصرخ فرحاً: يالجمال الإنجاز، أو؟ في كل الأحوال أنك حاولت، لكني أرجوك أن تحاول مرة أخرى، لأن الكلمة العظيمة التي يجب الاحتفاظ بها في جيب قلبك هي: اسعَ.
حينما تضع النقطة، تصور أنك تسحبها لتصبح خيطاً، الخيط يحاك ليصبح بدلة عرس، العرس يحتاج إلى توهج، التوهج يدخل من الباب بكل وضوح، الأصابع تراقص الخيط على الوجوه والأماكن الدافئة لتكون ناعمة ومشتهاة، البيت يصدح بالـ (هلاهل)، نسّاجة الوجوه أحياناً تجمع رأسين بالحلال، إضافة لتراقص أصابعها، هناك خيط في مكان آخر يرن، يبني السرير. الخيوط تبني البيوت باستقامة وحنان، ألم يقل الروائي الراحل غائب طعمة فرمان في نخلته وجيرانها (البيت فوك راسك سكف). وهذا هو الأمان، أن يكون لديك سقف يتوهج ويزيح العتمة، عتمة الوحدة، أرأيتم فعل الخيط العجيب؟ الصورة من المتحف البغدادي للمصور الراحل إمري سليم.. أرشيفي الشخصي.
هكذا تتم الإزاحات، لكن هل فكر أحد في البدايات؟ لعل الكثير لا يتذكر أين تقع سينما أطلس الآن، التجريف يستحوذ على الجمال، يستحوذ على الألفة. يومها الأول وافتتاحها كان بفيلم (شرق سومطرا)، اكتظ الشارع بالناس، وأحياناً كانت تباع التذاكر خارج الشباك بسعر أعلى. تلك هي رغبة الناس التي كانت تتمتع، جاءت الحروب ومعها جاءت الانكفاءات، راح بعيداً من راح، وهاجر من هاجر، وأقفرت الأماكن، وصاح الصدى بصوت عال، لكن هيهات، لا أحد يسمع. وبدأ التهجير، لكن من نوع آخر، غلقت الأبواب، واقتلعت الكراسي، وكذلك مكائن التشغيل، وأصبح من المحال عودة الحال. في الصورة شباب يحملون بعضاً من جسد عروض السينما المقطع، نهاية عهد وبداية عهد آخر، يلتحف جهاز الموبايل به وحيداً.
كانت الموسيقى، وكان الغناء والمدينة آذان للسماع، غذاء لا استغناء عنه، لا يوجد بيت إلا وكان وسادته المذياع. الخيال يمنح العافية والتعلم، كيف يمكن أن يكون شكل المغني وهو يؤدي هذا الطرب الجميل؟ جاء التلفزيون، وكان الأول في المنطقة، ومعه توضح كل شيء، كل شيء أنيق ويبعث على البهجة والحبور، غناء جلّه يتغزل بالحبيب، وجزء من هذا الحبيب هو البيت والبلاد، بعفوية تامة وإخلاص ساحر. هؤلاء أربعة استطاعوا أن يرسّخوا قيماً لا يمكن محوها على مر الزمن. يميناً الكبير عباس جميل (تحاسبني على الأيام)، ثم الراحل الشفيف محمد عبد المحسن (سلم بعيونك الحلوات)، والسورية العراقية إنصاف منير، التي أعادت الكثير من أغاني كارم محمود، وغنت أغنية نادرة، كانت تتردد كل عام مع موسم الحج (ياناكتي). وأخيراً الملحن والصوت العذب عدنان محمد صالح، الذي كان الجميع يستقبل صوته بفرح غامر كل صباح وهو يردد (كحل الياسمين عينك بالندى).
“دعاني الجمهور هذه الليلة للظهور على المسرح وقدم لي باقات من الزهور.” هكذا صرخ مبتهجاً (فاسيلي)، الممثل في مسرحية (أغنية التم) لتشيخوف، فرحاً بتقدير النظّارة لأدائه البارع. وهكذا كانت بلادنا تجمع الأكف وتصفق لألق المبدعين البواسل. ونتيجة لعمق وجدية هذا المسرح، زار البلاد بعض من الفرق المسرحية لتقديم عروضها للجمهور. في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني للعام 1929، زارت البلاد الفنانة المصرية فاطمة رشدي مع فرقتها، وقدمت بعض العروض المسرحية التي استقبلها الجمهور بحفاوة كبيرة. دار الهمس خلف الكواليس حول وجود خفقان قلوب بين الراحل الكبير حقي الشبلي وبين الفنانة فاطمة رشدي، التي سعت لاصطحابه إلى مصر للدراسة، ولما صعب الأمر استطاعت أن تقابل الملك فيصل الأول للموافقة على طلبها، وكان لها ما أرادت. ولم تأت الأخبار من مصر بشيء إلا الدراسة التي قام بها الشبلي رحمه الله. الصورة فرقة فاطمة رشدي، ويقف الأستاذ حقي الشبلي خلف الرجل الجالس الذي يعتمر (الفينة).