مقداد عبدالرضا /
ترى ما الذي يبتغيه المخرج روي اندرسن (جائزة دب فينيسيا) حينما يضع حمامته فوق غصن للتأمل بهذا الوجود؟ ماذا تتأمل؟ هل تتأمل هذا الوجود المضطرب, المنكسر؟ وجود جشع وغفلة ودم وقسوة.
هذا الفيلم الأسود الساخر, افتتاح فائق الذكاء, سخرية ممزوجة بقسوة, امرأة شاخت وهي عند كلماتها الأخيرة فوق سرير رحيلها, يحلق حولها اولادها للتوديع, تحتضن حقائب, حقيبة حياتها, وما الذي تحويه حقاب النساء في الغالب؟ المجوهرات, تصر هذه الفانية على أن تأخذ معها الحقيبة الى العالم الاخر, الابناء يسحبون, تعود لها كل قوتها في تلك اللحظة, تسحب هي الاخرى وتصر على ان ترحل مع الحقيبة, اي عالم جشع هذا الذي نعيش فيه؟ الى اي مدى يأخذنا الارتهان لليومي والسائد والمألوف وخراب الأرواح؟ يقول المخرج حول الفيلم: “انه فيلم يدور حول الأذى الذي يخدش الأرواح, انه يخدش سطح روحي انا بالذات, خاصة اذا ماعرفنا ان الناس باتت تمارس القسوة بلذة متناهية, كأننا نعيش في غابة, لقد غيبت عقولنا الراجحة, غيبها الأفاقون والقتلة, غيبها رعب الحاجة والاقتصاد غير العادل, هذه المرأة التي تحتضن الحقيبة, الاولاد يخبرونها بان لاحاجة لان تأخذها معها, هناك في الفردوس كل شيء متوفر ولن تحتاج الى كل هذا, لا تقتنع ابدا, في المشهد التالي, السخرية في ذروتها, سخرية من موت الانسان المجاني في هذا العالم, رجل يحاول فتح غطاء قنينة, يحاول جاهدا, لايتمكن, يحاول السحب اكثر لكن دون جدوى, جراء الجهد المبذول والضغط الكبير يتوقف قلبه ويموت, هل يمكن التصور ان الانسان يموت من محاولته فتح زجاجة؟”
اي عالم ساخر يضعنا فيه المخرج, يقول “ان فيلمي يدور حول الإهانة التي يتعرض لها الانسان, هذا المخلوق العظيم, أجمل المخلوقات على الاطلاق, يقع عليه كل هذا الحيف, ومن قبل من؟ من قبل أخيه الانسان, الجرائم ترتكب, افعال ضد الإنسانية, هذه الأفعال ستمسّك أنت أيضا حتى ان كنت غير مشارك فيها, عليك ان تعلن عن الخطأ, تحتج, تصرخ, تتمرد, هناك تعسف, هنا احتجاج, فقط من اجل ان تتساوى الحياة, لا ان تظل بيد الأفاقين, بسالتك انت في دحر الوحشة ولو بشكل بسيط”. لو اننا تابعنا البائعَين المتجولَين بشكل دقيق (جونثان وسلم) لاكتشفنا كمية الحزن الذي يغلف روحيهما, انهما يتعاملان بكل بساطة, لكن عالم الدولاب لايقبل إلا أن يلفهما في عجلته, لعلهما (بوز وولكي في مسرحية في انتظار غودو لصاموئيل بيكت), تلك البراءة في عالم أفاق, وكأنهما الدليل على مايدور من صخب وفوضى, كلما حاولا الوصول الى عالم النقاء جاءتهما صفعة اعادتهما الى الخلف, يبيعان اقنعة في عالم لايحتاج اليها, فالجميع يسفر عن وجهه القبيح دون حياء, إذن هي بضاعة كاسدة, لايمكن لنا ان ننسى واحدا من اهم المشاهد, انها الآلة التي تجر الإنسان الى قدره, مجموعة من جنود الجيش البريطاني يقفون بالقرب من آلة, يقبع في داخلها مجموعة من الرجال والنساء, الجنود يشعلون النار تحت هذه الآلة, بفعل النار تبدأ بالدوران, من في داخلها يتلظى ويحترق, ولكي تكتمل القسوة, يخرج اناس هم في أرذل العمر وفي ايامهم الأخيرة, يتطلعون الى مايجري بفرح غامر ويبدأون احتفالا بهيجا, أموات يشيّعون أمواتا, سخرية وألم, النهاية تأتي قاسية جدا, حينما يسأل احدهم: ماهو اليوم, هل هو ثلاثاء ام اربعاء؟ لايأتيه الجواب الا من صوت تلك الحمامة وهي تجلس فوق غصن, تتأمل, ماذا تتأمل؟, لعلها تتأمل وجودنا المخرَّب