عادل مكي/
الفطرة الإنسانية الفذّة عند العظماء وخاطفي مجسّات الروح هي في الحقيقة سر فلسفي عميق وركن أساسي من قانون الطبيعة وناموس الوجود الذاتي الصحيح، باعتبارها الأصل والأهم من بين كل ما يحيط بنا من أشياء، إذ إنها تحرك الرواكد، وهي ذاتها الفطرة التي فطرنا عليها بحب الإمام الذبيح الحسين (ع)،
إنما هي محصلة وجودية أو تحصيل حاصل لحب ذلك الإمام المعصوم الذي ضحى بنفسه الزكية من أجل أن يفتح نوافذ الحق والنور، فهو مدرسة الشهادة والفداء التي أعلنت بكل وضوح أنها المدرسة التي تريد للإنسان أن يكون رافضاً الذل والهوان، وترك المهادنة مع الشيطان من خلال الوعي العقلي، فلقد فتح البصيرة المطلقة لكل النفوس التواقة للحرية بالانتماء الى الطهر والنقاء والصدق والوفاء.
من هذا المنطلق نهل الشعراء والأدباء والكتّاب والفلاسفة وكل الشعوب التي تبحث عن الخلاص من تلك التضحية الكبيرة معنى أن تكون حراً لاعبداً وإنما سيد نفسك. فلقد كان الإمام الحسين وسيظل المنار الأوحد والأعمق في تاريخ البشرية جمعاء، لذلك هامت بحبه جمهرة كبيرة من مختلف الأجناس والأعراق، ولاسيما الثلة التي أسهمت بنشر مظلوميته ثقافياً، فهي تعتبر الرعيل الأول لـ اللطميات أو الردات المنبرية الحسينية، فكانت بحق علامة مضيئة نهلت منها الأجيال المتعاقبة.
اليوم سنتحدث عن شاعر حسيني كبير ورادود خلده التاريخ بماء من ذهب، يشبه الظاهرة المحيرة باعتباره شاعراً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، لكنه سطر أعذب وأجمل الكلمات التي ظلت خالدة أبد الدهر. إنه الشاعر المرحوم (عبود غفلة) الذي ولد في ربوع النجف الأشرف في بيت عُرف بالولاء والمحبة لأهل البيت، حيث كان رحمه الله يمثل محيط الأدب وواحات الشعر، فكان روضة الخيال وضمير المنبر الحسيني، وهو من عائلة (الشمرت) التي يرجع نسبها الى الخاقانيين، وقد عرف الشاعر بأميته من حيث القراءة والكتابة -كما يقال عنه- لكنه تمتع بالنورانية والفقاهة ومصاحبة أهل العلم والمعرفة. وكان من مرتادي مجالس الذكر والوعظ والإرشاد ومن رواد مجلس الحسين ع، حتى أن الشاعر العربي المعروف أحمد شوقي حينما أسمعوه أبياتاً من شعره، قال “أسمعوني بعد غيرها”، فلما سمع قال في حقه “إنني لو كنت أمير الشعراء فهو ملكهم.”
كما عرف عنه أنه كان يمتهن البناء، وكان ينظم الشعر ارتجالياً، ولاسيما أنه كان ينشد الشعر وهو في حالة مزاولته عمله، فيما كان الرواديد والقراء يأتون إلى محل عمله ليكتبوا ما ينشد وما ينظم من قصائده التي عجت في العصرين، التي أنشدت بصوت الملا باسم الكربلائي. توفي رحمه الله في النجف الأشرف عام 1356 هـ. وشاركت في تشييعه جموع من أهل الشعر والخطابة والموالين، ودفن في مقبرة وادي السلام مجاوراً لمقام النبيين هود وصالح.
أما الظاهرة الأخرى فهو الرادود الفذّ حمزه الزغير، أو المدرسة المنبرية التي سلبت العقول والألباب، إذ ولد حمزة الزغير عام (1921م) في مدينة كربلاء بمحلة باب الطاق، واسمه حمزة عبود اسماعيل السعدي، واشتهر بحمزة الزغير، وذلك لوجود رادود آخر كان في كربلاء بنفس الفترة هو المرحوم حمزة السماك وكان أكبر منه سناً وأقدم منه في القراءة وأطول منه قدماً وللتمييز بينهما سمي بــ(حمزة الزغير).
نشأ في كربلاء لينهل من تراثها الثر، حيث عاش يتيم الأب، فأخذت أمه على عاتقها تربيته، علماً بأنه كان الوحيد لأبويه، ودخل الكتّاب حينذاك، وفي بدء حياته العملية امتهن العطارة، وبعدها مارس مهنة بيع الأواني المنزلية، ثمّ مارس مهنة صناعة الأحذية، فيما كانت آخر مهنة مارسها هي مهنة كي الملابس. أخذ بيده ووجّهه صوب المنبر الحسيني والقراءة الحاج الشيخ عباس الصفار الذي كان ملازماً له، وكان الملا حمزة مولعاً بحفظ القصائد الحسينية والأوزان، لذلك عد من أشهر الرواديد الحسينيين الذين أنجبتهم كربلاء، حيث ما زالت أشهر قصائده تقرأ حتى الآن في المجالس الحسينية، وكانت أكثر القصائد التي يقرأها من نظم الشاعر الحسيني كاظم المنظور الكربلائي، ومن أشهر القصائد التي كتبها له (آه يحسين ومصابه).
لقد امتاز المرحوم الزغير بحسن اختياره القصائد التي كانت تعرض عليه، ولم يكن اختياره بشكل عشوائي دون تمحيص، فهو لا يتقبل اقتناء أية قصيدة تصله، إذ أنه كان يتأمل في القصيدة طويلاً ويدرس كل جوانبها دراسة عميقة. تأثر به وبأسلوبه المئات من الرواديد الذين ساروا على نهجة المميز، فقد كان يمتلك صوتاً رخيماً وحنجرة كبيرة قدمت الكثير لثورة الإمام الحسين ع ، لذا ذاع صيته وملأ الآفاق بالرغم من وجود رواديد كبار كانوا يسبقونه عمراً وخبرة وشهرة، فأصبح المتميّز بينهم ورائد المنبر الحسينيّ ورادوده الأول، وأسس بعد ذلك مدرسة خاصة به في القراءة الحسينية، إذ لم يكن يقلد أحداً، بل قلده الكثير من الرواديد حتى في وقتنا الحاضر.
كان يعتلي المنابر الحسينية ويرتقي بذلك الصوت الشجي ذي النبرة الحسينية المعبرة عن مأساة واقعة الطف تدريجياً إلى الشهرة التي استحقها بجدارته المتأصلة في قراءته وأسلوبه، ووصل أوج عظمته في الخمسينيات من القرن الماضي، علماً أنه لم تكن توجد في ذلك الوقت أجهزة صوتية متطوّرة كما هي موجودة في الوقت الحاضر، لتزيد من جمال الصوت وحسن الأداء. وعلى إثر مرضٍ عضالٍ ألمّ به، وافاه الأجل في يوم الثلاثاء (23 شوال 1396)، وكان لنبأ وفاته وقعٌ مؤلمٌ في نفوس الجماهير، فقد أُقيم له في كربلاء تشييعٌ حسينيّ يليق به وبمكانته، وعاشت مدينة كربلاء عصر ذلك اليوم المؤلم في حزنٍ وأسى، إذ عطّلت جميع المحلات إنارتها وعتمت الدور ضياءها في تلك الليلة، وأخذ موكبُ التشييع طريقه صوب مرقد الإمام الحسين(ع)، ثم بعد انتهاء مراسم الزيارة في مرقد سيدنا العباس(ع) حمل النعش الى مثواه الأخير في وادي كربلاء.
رحم الله الشاعر عبود غفلة والرادود حمزة الزغير، فقد تركا لنا إرثاً حسينياً كبيراً مطرزاً بأحرف الولاء المطلق ستنهل منه الأجيال الشيء الكثير، وقد كانت رسالتهما واضحة وصريحة شدت إليها قلوب المحبين نتيجة ذلك الثراء الخصب الذي تركاه كقيمة فنية عليا لن يفلح أحد في محوها أبد الدهر.