محمد موسى /
في ألمانيا الشرقية الاشتراكية ذات التبعية للاتحاد السوفييتي، كان كل شيء تحت المراقبة، لا شيء فوق سلطة البوليس السري، المثقفون والفنانون والساسة وعامة الناس، الكل تحت مجهر فحص الولاء للاشتراكية، أية كلمة أو مزحة تمس النظام الاشتراكي من بعيد قد تدفع ثمنها حياتك، في العلن الكل راض عن الحكومة الاشتراكية العظيمة، وخلف الجدران الموصدة يتألم الناس، لكن البوليس السري قصته تبدأ مع الكلمات فكيف بالأفعال؟
فيلم (حياة الآخرين) للمخرج والمؤلف الألماني (فلوريان هينكل) صدر في العام 2006 وحصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، بدأت فكرة الفيلم حين استمع المخرج والمؤلف هينكل الى مقولة تشير الى أن لينين كان يستمتع جداً بموسيقى بيتهوفن، في حين أن له آراء علنية شاذة تخص الموسيقى. من هنا جاءت فكرة الرجل الذي ينتمي ولا ينتمي، إنها قصة المحقق في البوليس السري (فيسلر) الضابط والمدرس في كلية الأمن وأساليب التحقيق، المقتنع تماماً بدوره في خدمة الوطن من خلال أساليب تحقيقية، ما جعله في مكان مرموق ومحط اعتزاز مرؤوسيه. إنه لا يبالي بأي أسلوب يوصله الى انتزاع الاعتراف، لذا فقد كلف أن يراقب تحركات وعلاقات كاتب مسرحي كبير (جورج درايمان) كان له أثر واضح في المجتمع الاشتراكي، وبما أنه لا يوجد شخص فوق الشبهات، لذا سيكون هذا الرجل، وبكل تفاصيل حياته، هو العملية الجديدة لفيسلر.
الضابط والكاتب
تناقض حياة وسلوك واعتقاد كل من الضابط والكاتب هو محور العمل، الضابط الذي يتجسس لاعتقال الأعداء، يؤمن بقضيته، والكاتب يعلم بأنه في نظام مستبد وظالم، لكنه مع هذا يدفع بحياته الى الأمام بما أنه خارج منطقة الألم من النظام، الضابط شخص صارم وعلاقاته محدودة وروتينية ودون عاطفة، ويمتلك القوة من الجانب الآخر. الكاتب مفعم بعلاقات الصداقة مع كلا الجنسين ويعزف الموسيقى ويكتب الشعر ويؤلف المسرحيات وله معجبوه. هذا التباين في الشخصيتين سيؤدي بأحدهما الى الهزيمة النفسية. حسناً ها هو فيسلر يزرع أجهزة التنصت البالغة الدقة في كل ركن من أركان شقة درايمان، يتجسس عليه حتى وهو الحمام، يراقبه دون رحمة على مدار 24 ساعة بمعاونة منتسب آخر في جهاز البوليس السري، يكتب عنه التقارير اليومية وكل كلمة ينطقها مع حبيبته (كريستا) الفاتنة الممثلة الموهوبة، إنه ينصت لحركتهما معاً ويتابع كلماتهما عن بريخت (شاعر وكاتب ومخرج مسرحي ألماني)، وعن الموسيقى والمسرح، ولا يدع العلاقة الحميمية بينهما تفوته أيضاً.
كريستا.. بداية التحول
مع كل الاعتقاد والجدية التي يحملهما ضابط البوليس السري فيسلر، إلا أنه ومن خلال مراقبة درايمان وحبيبته كريستا، يكتشف أنها على علاقة جنسية قسرية مع وزير الثقافة الذي يمثل أحد أعمدة السياسة في ألمانيا، وزير الثقافة الذي أوعز بمراقبة الكاتب لشكوكه بعدم صدق توجهه الاشتراكي، هو نفسه يغتصب حبيبة الرجل مراراً تحت تأثير سلطته البوليسية، وتهديدها بشتى الطرق، وفي كل مرة ترجع كريستا الى شقة درايمان تكون منهارة وعازمة على ترك كل شيء بسبب الإحباط وخيبة الأمل وعدم القدرة على البوح بمشكلتها لأحد، فمن يستطيع أن ينقذها من وزير الدولة البوليسية، كل هذه التحولات تنكشف أمام مسامع فيسلر، الذي يبدأ بمراجعة نفسه فيما يخص المبادئ التي يخدمها، وكيف أنه مجرد بيدق شطرنج لا أكثر، يخدم مصالح أشخاص بلا وطنية، إنه –باختصار- يشعر بكونه مغفلاً كبيراً.
بريخت من جديد
حين يقرر فيسلر أن يفتش شقة داريمان برفقة مجموعة من البوليس السري، تقع عيناه على كتاب لبريخت، وهو من كان يسمع عنه في محادثات الكاتب مع أصدقائه، ينتهي التفتيش بلا شيء مهم، إلا أن كتاب بريخت قد اختفى ليظهر فيسلر مستلقياً على سريره في شقته المنزوية وهو يطالع هذا العالم الجديد الذي لا ينتمي إليه ولا يعرف عنه شيئاً، إنه يتعرف على عالم مليء بالجمال والكلمات العذبة ودفق المشاعر. هنا لا يوجد شخص محقق ينتزع الاعترافات لينال إعجاب المدير المباشر، ثم يعود ليلاً وحيداً منعزلاً الى شقته دون أن يكون هناك ما ينتظره سوى صورته البائسة وطعامه الجاهز، حياته المملة المكررة وسط جموع من الشعب الكارهة لشخص واسم البوليس السري، شتان ما بين الحياتين والفكرين، ومن ثم النهايتين.
تقارير منقوصة
درايمان يبدأ بالكتابة عن حالات الانتحار المتزايدة في ألمانيا الاشتراكية، ويرسلها مع أحد الأصدقاء الى وسائل إعلام ألمانيا الرأسمالية، وهنا تبدأ الضجة، فكيف لكاتب في ألمانيا الاشتراكية يستطيع أن يجتاز حاجز البوليس السري ويرسل مقالته دون أن يكتشفه البوليس، من أعلى المراجع الأمنية تأتي الأوامر باكتشاف اسم هذا الكاتب، وإلا سوف تجري معاقبتهم، طبعا هنا فيسلر كان يعلم بكل شيء ويستمع لكل كلمة كانت تدور بين الكاتب وأصدقائه حول المقال وطريقة إرساله الى الجارة، يعلم أدق التفاصيل، إلا أنه كان يكتب التقارير التي تؤكد عدم وجود شيء مثير أو ذي أهمية تذكر، إنه يعلم بأمر الآلة الطابعة التي يخبئها داريمان تحت الأرضية الخشبية في الشقة، يعلم كل شيء، إلا أنه لا يريد أن يلعب دور المغفل لصالح سلطة تستغل مواطنيها بكل الطرق، تحول سيدفع فيسلر ثمنه باهظاً.
الموت والعقاب والتاريخ
تحت الضغط الكبير على حبيبة داريمان من قبل سلطة البوليس والتهديد، تعترف بمكان وجود الطابعة، وأنه هو من كتب المقال، هنا كان لا بد لفيسلر من موقف، لذا يسبق فريق التفتيش ويأخذ الآلة الطابعة ليترك الأمر دون دليل يدين الكاتب، في المقابل، ومن هول الوشاية، تهرب الحبيبة ظناً منها أنها أودت بحياة حبيبها، وفيما هي تركض تصدمها سيارة مسرعة لتتركها جثة ملطخة بالدماء والدموع.
هنا ينتبه الضابط المسؤول عن فيسلر لشيء غير عادي، وسيناريو أحداث مرتبة بفعل فاعل. وبما أنه لا دليل يدين فيسلر، فإنه ينقله الى مهنة فاتح رسائل بالبخار في مجمع البريد وهي أدنى مهنة أمنية، وما هي إلا أعوام ويسقط جدار برلين وتسقط سلطة البوليس، ليبدأ تساؤل داريمان كيف له أن نجا من البوليس، حتى يأتيه الجواب سريعاً بأنه كان مراقباً على مدار الساعة. إذن كيف أنهم لم يكتشفوا أمره، وبالعودة الى أرشيف التقارير السرية للبوليس تتوضح صورة الرجل الذي حمى داريمان، فيبدأ رحلة البحث عنه، ولا يجد سبيلاً لشكره إلا أن يهدى آخر كتبه الى هذه الشخصية السرية العظيمة.
تطبيق عملي
إن تأثير هذا الفيلم ما زال مستمراً على كل من يشاهده، وربما يشبه هذا ما حدث في إسرائيل حين رفضت قوة تجسس إسرائيلية مواصلة عملها ضد ناشطين فلسطينيين بعدما شاهدوا الفيلم، وهو دليل على أن للسينما الكلمة الفصل في عالم الأحياء.