محمد موسى /
البروفسور آد فورام: على الرغم من أننا عاجلاً أو آجلاً، خلال قرون أو ثوان، ستأتي لحظة نعود فيها الى العدم الذي خلقنا منه، وليس هناك طريقة لنكون استثناء لهذه القاعدة.
فيلم (المراسلات The Correspondence)، هو فيلم رومانسي كتبه وأخرجه الإيطالي الكبير (جيوزبي تورنتوري) وصدر العام 2016 دون أن يترك أثراً كبيراً لدى المشاهدين، ما سبب صدمة كبيرة لدى النقاد للمستوى الذي وصله هذا المخرج بعد سلسلة أفلام مدهشة استمرت لعقود مثل (مالينا، إجراء شكلي، و 1900)، ولكن لماذا هذا التدهور إذا ما صح قول النقاد؟
المخرج جيوزبي المولود عام 1956، الذي كان يحلم دوماً بأن يستمر عطاؤه الى ما لا نهاية، أدرك أنه وصل الى أرذل العمر، ولم يعد بإمكانه أن يركض ويعمل وينجز كما كان، فهذه السنوات بدأت تأكله شيئاً فشيئاً، وكأنه يصارع الحالة الطبيعة للإنسان بالزوال في نهاية المطاف.
جيوزبي، المتعلق بالأحلام يصدمه العمر والموت بلا هوادة، ومنذ فترة طويلة، حتى أنه صار يتخلى عن المؤلفين الكبار ليكتب قصته بنفسه. لم يكن الدكتور “آد”، الذي يلعب دوره الممثل البريطاني المخضرم (جيرمي ايرونز)، لم يكن هذا العالم والمولع بالفلك ومراقبة النجوم والكواكب ذات القدرة الهائلة على البقاء لملايين السنين، لم يكن إلا هو المخرج نفسه، القلق من الفناء، من الانتقال الى العدمية (حسب وجهة نظره)، تاركاً كل متعلقاته الجميلة دون رجعة. إنه الألم الذي يخرجه الموشك على الموت. من هنا سقط الإيطالي المبدع في فخ الخوف وأنتج فيلماً لا يمت له بصلة إخراجياً، إلا أنه يمثله نفسياً. العاطفة والخوف من المجهول جعلاه يتحدى قواعد السيناريو الرصين ويغامر بعمل يدرك جيداً أنه لن يعجب النقاد، لم ينتظر من أحد أن يصف له بالقدر الذي أراد أن يرى نهايته هو، أراد أن يبكي نفسه، لقد أعطى الحق لذاته أن يصورها بالشكل الذي يراه، لا كما يراه الآخرون، لذا أهمل الرأي الآخر وأهمل جمهور السينما.
القصة
البروفيسور وعالم الفضاء الكبير في السن (جيرمي) يعشق طالبة الماجستير في الفيزياء الفلكية (آمي)، تعلب دورها الأوكرانية (أولغا كوريلنكو)، فهو يشرف على رسالتها، لكنه يعشقها بشغف وهي كذلك، إنها علاقة حب غير عادلة بين شابة ورجل مسن، هو يهمل أسترته لأجلها ويتواصل معها عبر الرسائل الإلكترونية وفيديو السكايبي، وكذلك الرسائل الورقية، وهي لا ترى أي شخص في هذا العالم غيره رغم كبر سنه. إنه بارع في الإقناع وهي جميلة حد الجنون، تدبر حالها مادياً من خلال لعب الأدوار الخطرة في السينما والإعلانات بدلاً من الممثلات، وتجني ما يكفيها لإكمال مشوارها الدراسي، وربما تبرر هذه المهنة الصعبة حب المغامرة لديها حتى في الحب، لكن هذا لا ينسجم مع طالبة ماجستير في علوم الفضاء.
نهاية المخرج أم نهاية الفيلم!
البروفسور آد: “إن خطئي القاتل يا (آمي) هو أني لم أتعرف عليك منذ البداية، هو عدم القدرة على العيش معك لفترة أطول، أليس هذا سبباً كافياً كي أموت؟ كل منا لديه سبب قاتل.”
يخبرها (آد) ذات يوم أن لكل منا (11) نسخة أي أننا نعيش مع (10) نسخ من كل منا، وهي موجودة بأشكال مختلفة، ونستطيع أن نوصل الرسائل من خلالها، هذا المنطق كان غريباً على آمي، حتى باتت تشعر به بعد أن أعلن في مؤتمر، كان من المفروض أن يديره حبيبها البروفيسور، عن وفاته منذ أيام قليلة.. لكنه طيلة هذه الأيام، التي من المفترض أنه ميت فيها، كان يتواصل معها بشكل طبيعي عبر الرسائل الإلكترونية والمحادثات الفديوية، إنها الصدمة.. إنه الموت، لا، هو فقط يمزح أو يكذب، إنه معها في كل الأوقات.
شفرة الانقطاع
يرسل لها رسالة يطلب فيها، إن هي شعرت بثقل التواصل مع الموتى، أن ترسل له شفرة أعدها لها سابقاً، فينقطع عن إزعاجها، يخبرها بأنه لا يستطيع أن يكون عبئاً على أحد، فليس من المنطقي أن تبقي مرتبطة بشخص ميت. هنا يبدأ كل شيء يثير اهتمامها، الطيور والكلاب، التي قد تكون نسخاً منه كما كان يقول لها. إن البروفيسور المولع بالعلم، مولع بالتكنولوجيا ووسائل التواصل، لذا فهو يهيئ كل شيء ليبقى معها أطول فترة ممكنة. وفي لحظة غضب منه تطلب منه عبر الشفرة أن يتركها لحالها، فينقطع كل اتصال به وتتوقف الرسائل بجميع أشكالها لتبدأ رحلة البحث عن شفرة عودة التواصل.
فيلم مشاعر لا نقاد
لقد لعب البريطاني (جيرمي آيرونز) أجمل أدواره في فيلم (المراسلات)، من حيث الأداء، فقد أعجبته القصة وعاشها بشغف، فهو يشعر بما يشعر به المخرج، فهما ينتميان الى نفس الجيل، وعليهما أن يترقبا موعد الرحيل. هذا الإحساس الذي جلبه الى الشاشة (تورنتوري)، الذي عاش معه (26) عاماً، كما يصرح، هو نفسه الذي عاشه البريطاني، لذا نجد التناغم العالي بين الأداء والإخراج.
نعم، الفيلم لم يعجب جمهور الناطقين بالإنجليزية، وقد تعود المخرج أن يبقى في واقعه الإيطالي ويبدع فيه، لكن الإيطالي أراد أن يقول لكل الناس، بلغة السيمنا الهوليودية، إنه أكمل مسيرته، وأن ما سيقولونه غير مهم بالمرة، وكذلك فعل البريطاني وهو يشارف على النهايات. ولكن ماذا عن (أولغا) الأوكرانية التي اعتادت أدوار الأكشن والعراك؟ هل ستجد نفسها في مشاعر الحب السلبي قادرة على الإفلات من محددات أفلام الأكشن؟ لعل المشاهد سيصدم بكمية المشاعر التي أفاضتها الأوكرانية، وكمية التحدي الذي اجتازته حين لعبت هذا الدور. ولا نعلم يقيناً هل أن المخرج كان قد اختارها هي، أم أن رفض الأخريات جعلها ضمن كادر الفيلم. وحسب ماضي الإيطالي فإنه فنان في اختياراته، لكنها كانت صدمة كبيرة في اختيار أولغا، التي لعبت فيما بعد فيلماً رومانسياً آخر في العام 2012 مع الممثل (بن أفليك) ولم تنجح فيه كثيراً.
فنياً.. رسم الإيطالي كل مشهد من مشاهد فيلم (المراسلات) بحرفية عالية كعادته، إلا أنه انحاز الى المشاهد الشاعرية، أو أنه جسّد نفسه وما تأثر به على من يحب بعد رحيله، فقد أمات البطل في الربع الأول من الفيلم، إلا أنه ظل متواصلاً في حياة حبيبته رغم الموت. فيض من المشاعر يرسلها إليها وهو في أيامه الأخيرة ومصاب بالسرطان، ويودعها وهو يدير ظهره الى الكاميرا وكأنه أراد أن يخيرنا بأن الوجوه تفنى لكن المشاعر باقية، وكذلك يعتذر لحبيبته ألا يظهر وجهه، وهذا ليس من اللائق، لكنه يبرر هذا التصرف بأن الزمن قد أكل منه الصحة، وربما يسعل دماً في أي وقت أثناء الحديث معها. أولغا في المشهد الأخير ليس لديها أي حوار مكتوب، لكن المشاهد سيشعر حتماً بحجم المعاناة وكمية الحوار الداخلي التي كانت تتبادله مع متوفى حي.. أو حي ميت!