مينا أمير الحلو /
حتى وهي تغني بلغة لا نفهما، نحب صوتها وشكلها المميز بشعرها الذهبي الطويل وقوامها الممشوق وحركات يديها وهي تغني، فهي إيطالية العرق ومصرية الطباع والخفة. ولدت يولاند في ١٧-١-١٩٣٣ بحي شبرا المصري من والدين إيطاليين قررا الهجرة من إيطاليا كباقي المهاجرين الذين أفلسوا ووصلوا لمرحلة الفقر المدقع، فقررا التوجه الى المحروسة حين كانت مصر هي الملاذ الآمن.
الاب كان عازفاً للكمان في الاوبرا المصرية، لذلك كبرت يولاند تحب الموسيقى وتعشق التمثيل وتتمنى لو أصبحت ممثلة مشهورة كقريبة لها في إيطاليا.. وبالفعل أخذت دروساً في الموسيقى على يد والدها لكنها كانت تقول: لم أحب أبي بل كنت أكرهه، لكني اكتشفت بعد سنوات أن هذه المشاعر كانت أقوى من مشاعر الحب نفسه!
قوانين الأب
كانت يولاند تعيش حياة بسيطة في حي شبرا الذي تسكن فيه العديد من الأسر المهاجرة من بلدانها الى مصر، فكانت تلتقي بجنسيات متعددة وتذهب الى المدرسة والكنيسة معهم، لكن الوالد بدأ يزعج هذه الطفلة بقوانين يفرضها عليها وهي بعمر صغير جداً؛ تقاليد وأعراف إيطالية /مصرية، جعلت الطفلة تكره والدها. توفي الوالد وهي بعمر ١٢ عاماً وبدأت يولاند بتعلم الكتابة على الآلة الطابعة بعد إلحاح والدتها عليها لكي تساعد في إعالة الاسرة. وكانت يولاند تذهب الى الكنيسة لتلتقي حبيبها الاول ارماندو الايطالي الجنسية إيضاً وتتشابك أصابعهما وهما يسمعان التراتيل . عملت ككاتبة في معمل للأدوية وشاركت في عام ١٩٥١ بمسابقة صغيرة للجمال وفازت بها وكانت بعمر ١٨ عاما، وبقيت تفكر بالشهرة والنجومية رغم رفض الأم لهذه الأفكار. عانت يولاند من حول واضح في عينها كان يحزنها لدرجة أنها كانت تبتعد عن الناس وتخجل منه ولقد عملت ٣ عمليات لتخفي هذا الحول الذي كان يميزها، ولم يمنعها هذا الحول من فكرة أن تكون ملكة جمال مصر.
ملكة جمال مصر
بقيت كل سنة تفكر في التقدم للمشاركة في مسابقة ملكة جمال مصر التي تقام كل عام، حتى قررت المشاركة في عام ١٩٥٤ وقالت لوالدتها بأنها ستذهب لزيارة صديقتها وذهبت الى مكان إقامة المسابقة وشاركت بالفعل. وقد حصلت المفاجأة بأن فازت هي بلقب ملكة جمال مصر لعام ١٩٥٤، فذهبت مسرعة وأخذت جائزتها التي كانت عبارة عن حذاء ذهبي وعادت للبيت مسرعة تخبر والدتها التي كانت في غاية العصبية بعد أن شاهدت صورة ابنتها على غلاف مجلة بالمايوه (البكيني)!
وبعد مشاجرة وتعنيف لم تمنع يولاند عن فكرة النجومية؛ بدأت يولاند بالتردد على الاستوديوهات بحكم أنها ملكة جمال مصر وبقيت تعمل ككاتبة وسكرتيرة، وبعد فترة عرضت عليها مجموعة من الافلام منها (يوسف وأخوته) أمام عمر الشريف الذي ذهبت للاقصر لتمثله وأعجب بها عمر الشريف وكونت بداية لصداقة دامت بعد ذلك لعمر طويل. و قدمت أيضاً فيلم (قناع توت عنخ آمون) و فيلم (سيجارة وكاس) أمام سامية جمال.
مع ألن ديلون
لكن طموحها كان أكبر ولم تفرحها هذه الادوار البسيطة فقررت الرحيل الى فرنسا لتبحث عن المجد.. رفضت الام والاخوة لكن يولاند أصرت وغادرت الى فرنسا، هناك وعلى حسب قولها: أولى خطواتي كانت في أرض باردة وكل خطوة كانت مثلجة واشتقت لحرارة ودفء مصر لكنني قررت أن أكون نجمة. وبعد أن استأجرت شقة مع صديقة لها، بدأت محاولاتها العديدة للتمثيل وكان يسكن أمام شقتها شاب وسيم يحلم أن يكون ممثلاً مشهوراً كما تحلم هي، ارتبطت معه بصداقة عميقة وكانا يخرجان للبحث عن عمل ويحدّث كل منهما الآخر عن التجارب التمثيلية التي قدمها في يومه هذا، ولم يعلما بأن تعبهما هذا سيجعل منهما داليدا وآلن ديلون !
القدر يغيّر حياتها
أفلست يولاند ولم تعد تملك من المال ما يكفيها وبعد إلحاح والدتها في كل رسالة عليها بأن تعود حزمت حقيبتها وتوجهت لحجز تذكرة العودة للقاهرة. لكن القدر كان ينتظرها ليشاهدها متعهد ومدرب غناء اسمه رولاند برجر ويقنعها بعدم الرحيل ويقول لها بعد أن أعجب بقوامها وجمالها بأنها ستكون ذات شأن كبير، وأقنعها بترك فكرة التمثيل والاتجاه الى الغناء بعد أن استمع لعذوبة وتميّز صوتها، فقام بتدريبها وتحمل كل تقلبات مزاجها وعصبيتها وحديتها التي ورثتها عن والدها وبعد فترة أصبح صوتها قوياً وجاهزاً وقدّمها الى صاحب ملهى ليلي واقتنع الأخير بها وقدمها للجمهور وخرجت تقف على المسرح وتغني بشخصية قوية وحضور رائع، فقال رولاند لصاحب الملهى: لقد أهديتك الآن نجمة وهي بين يديك. تغيّر الاسم الى داليلة ثم الى داليدا، واشتهرت داليدا ونجحت وأصبحت حب العالم بأسره.غنت بسبع لغات أكثر من ٥٠٠ أغنية، واشتركت في ١٢ فيلماً كان آخرها فيلم اليوم السادس ليوسف شاهين الذي كافحت لتمثيله.عادت داليدا الى مصر في عام ١٩٦٦ وعادت مرة أخرى في ١٩٨٥ وزارت شبرا وذهبت لبيتها القديم وهناك تسجيل موثّق لزيارتها نستطيع مشاهدته على الانترنيت؛ يرينا كيف أجهشت بالبكاء وهي تصعد سلالم العمارة وتنظر الى أماكن تربت فيها في طفولتها.
الانتحار
من الغريب أن داليدا أحبت ثلاثة رجال في حياتها والثلاثة انتحروا كما ستنتحر هي.!
كان أولهم زوجها الاول الذي أحبها حباً كبيراً وساندها لكنها أحبت رساماً وتطلّقت من أجله وبعد فترة ذهب للزواج من غيرها لكن بعد أن أقدم زوجها الاول على الانتحار بعد أن يئس من عودتها له. أما الثاني فكان مغنياً وسيماً وكان حبهما عنيفاً وقوياً لكنه أطلق النار على نفسه بعد فشل حفل له، وبعد أن دخل الى غرفته عقب الحفل قرر أن يقتل نفسه فدخلت داليدا لتواسيه لتجده غارقاً في دمه؛ جثة هامدة على أرض الغرفة. كانت ضربة قوية لداليدا لم تتركها بسلام، فلقد حاولت الانتحار ودخلت للمستشفى للتعافي وبقيت لمدة ثلاثة أشهر تتعالج من الاكتئاب الذي أسفر عن أجمل أغانيها.
وبعد فترة تعرفت أيضاً على رجل وسيم وغني وارتبطا بقصة حب جميلة لكنه انتحر أيضاً بعد تعرضه لمشاكل مادية.
سالمة يا سلامة
عادت الى مصر وغنّت لنا أجمل الاغاني، ومنها إعادتها لاغنية (سالمة يا سلامة) التي صدرت بالاساس عام ١٩١٩ من كلمات بديع خيري وألحان سيد درويش، وأغنيتها الأشهر التي نرددها الى الان (حلوة يا بلدي) في عام ١٩٧٩ من كلمات مروان سعادة وألحان جيف بارنيل.
دخلت داليدا في كآبة شديدة في أواخر أيامها رغم كل النجاح وكم الجوائز والتكريمات التي منحت لها لكنها قررت الانسحاب من الحياة بعد عودتها الى فرنسا. وفي يوم ٣ – ٥ – ١٩٨٧غادرتنا بقوة إرادتها المعهودة وتناولت جرعة كبيرة من الحبوب المهدئة بعد أن تركت لنا رسالتها الشهيرة: (سامحوني فلقد أصبحت الحياة غير محتملة).